ما كان يخوف الأهل به الصغار سابقا.. بات مسليا

في زاوية المنزل تخبئ خوفها وتوترها ظناً منها أن لون وجهها الأصفر لا يدل عما يجول في قلبها الصغير، أصوات الطيران الانفجارات في الخارج تدفعها لتحريك يديها بحركات لا إرادية وغير مفهومة، وبين الفينة والأخرى تخاطب شقيقتها الصغرى “لا تخافي فالغارات بعيدة”.

غادة باكير

“سدرة باكير” الطفلة ذات العشر سنوات، لم تر من طفولتها سوى مشاهد الحرب التي يعيشها ريف إدلب منذ أكثر من ثمان سنوات.

أمام إخوتها الصغار تعلمت كيف يجب أن تتخذ شخصية قوية، وكأنها تدرك مسؤولية تشجعيهم ومنع خوفها من الانتقال إليهم، مكابرتها على خوفها يتجلى عبر الحديث مع بنات عمتها والضحك بصوت عال بشكل متصنع ترفع صوتها كي يطغى على صوت الطائرات، وتارة أخرى تلاعب شقيقتها ذات الأربع سنوات والتي ترتجف خوفاً كي تنسيها ما يحدث في الخارج، لكن خوفها أحيانا يتجاوز قدرتها فتصمت وتكتفي بمراقبة الوجوه من حولها، منصتة إلى دمدمة جدتها بالدعاء بأن يحميهم الله من موت قد يأتي في أي لحظة ويحيلهم إلى جثث مغبرة تحت الحجارة.

تنتهي الغارات ولا ينتهي الشعور بالخوف، فقد تتجدد الغارة في أي وقت، ورغم مرور السنوات في ظل الحرب وادعاء “سدرة” بأنها تعودت على صوت الطيران، إلا أن خوفها المكتوم خلف لديها حالة صحية كانت تسوء يوماً بعد يوم، فبات الشحوب ظاهراً عليها مع تناقص في وزنها بشكل ملحوظ بسبب فقدان شهيتها للطعام، فلا أحد يمكن له أن يعتاد على الموت ويترقبه في كل لحظة.

طبيب الأطفال الذي شخص حالتها لذويها بـ “التهاب الغدة الدرقية” أرجع السبب لكبت مشاعر الخوف لفترات طويلة ومتكررة، ظهرت أعراضها بتورم في رقبتها بحسب حديث الأم لزيتون.

الطفلة مها علاء اسماعيل – كفرنبل – زيتون

تنص المادة 19 من اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عام 1989 بوجوب “حماية الطفل من جميع أشكال العنف البدني أو العقلي أو الإصابة أو الإساءة أو الإهمال أو المعاملة أو الإهمال أو سوء المعاملة أو الاستغلال”.

الطفلة “يمنى حاج علي” من مدينة بنش بريف إدلب الشمالي لها من العمر ثماني سنوات، ليست بحال أفضل من حالة سدرة، فقد ولدت في ظل الحرب ورأت أشلاء جيرانها تحت ركام منزلهم ما أورثها حالة من البكاء والرعب المتواصل والشديد في كل مرة تسمع فيه صوت الطائرات.

خوفها الكبير من الأصوات المرتفعة دفعها لملازمة أمها، والتحرك معها حتى في أرجاء المنزل، إذ يتملكها شعور بأن غياب أمها ولو للحظات قد تؤدي إلى خسارتها بشكل دائم. ولم تنفع محاولات الأم المتكررة لطمأنة يمنى لتعاودها كوابيس أثناء نومها تستيقظ على إثرها الطفلة باكية تطلب أمها.

تقول والدة يمنى لزيتون: “منذ أن كانت في عمر ثلاث سنوات ظهر عليها الخوف من أي صوت مرتفع ولو نسبيا، حتى ولو ناديتها بصوت عال، ومع انقضاض الطائرات وقصفها كانت ترتفع وتيرة خوفها ويشتد بكاؤها”.

وتضيف الوالدة أن يمنى في فترات الهدوء تعود لطبيعتها كطفلة عادية، لكن صوت الطائرات يحولها إلى طفلة أخرى بعد أن تسقط في حالة الخوف.

ويقدم الأخصائي في التربية وعلم النفس الطبيب “محمد العمر” مجموعة الأعراض التي تظهر على الطفل الخائف في حديثه لزيتون: “للخوف نتائج مدمرة على الصحة النفسية للطفل وعلى سماته الشخصية، فالخائف شخص متردد وانطوائي وقليل العلاقات الاجتماعية، ولديه ضعف في تقدير الذات وتأكيدها، ويعاني سوء التكيف في المدرسة خصوصاً وفي حياته العامة عموماً، فالتلميذ الخائف لا يشارك في معلومات الدرس ويخشى الانخراط في النشاطات الصفية”.

ومع افتقار الحالة السورية لأية إحصاءات دقيقة عن الأطفال المصابين بالقلق والخوف والمشاكل النفسية، تقدر دراسة أجرتها الرابطة الاتحادية للمراكز النفسية والاجتماعية للاجئين وضحايا التعذيب في ألمانيا نسبة السوريين الذين يعانون من اضطرابات نفسية ما بين 30% إلى 40% من مجموع عدد اللاجئين، وهو ما يعطي صورة عن حجم الظاهرة لدى السوريين.

يروي “علاء الدين إسماعيل أحد أهالي مدينة “كفرنبل” في ريف إدلب الجنوبي حالة الخوف لدى أطفاله من الطيران الحربي، لا سيما بعد رؤيتهم لأشلاء أقاربهم تحت ركام منزلهم، ويتحول هلعهم بعد بدء الغارات الجوية إلى خوف شديد ليبدؤوا بالصراخ والبكاء ويسرعون باتجاه مغارة قريبة للاحتماء بها

يقول الوالد بأسى إن محاولاته تهدئتهم وضمهم إلى صدره ليست ذات جدوى، فخوفه عليهم في الواقع أكبر من خوفهم بكثير، الأمر الذي دفعه إلى النزوح باتجاه الحدود التركية فأخشى ما يخشاه أن يفقدهم كما حدث مع أولاد شقيقه.

الطفل وسيم علاء اسماعيل – كفرنبل – زيتون

الاختصاصي في طب الأطفال الطبيب “خالد باريش” يرى أن الخوف هو حالة انفعالية طبيعية وعندما يزيد عن الحد الطبيعي يتحول إلى حالة مرضية تدعى الفوبيا، موضحا نتائج الخوف والآثار السلبية على نمو الطفل وتطوره الحركي والنفسي التي قد تتطور لـ “نوبات من الصرع الحسي الحركي”.

لا تقتصر أسباب الخوف على ظروف الحرب ومشاهد العنف، لها أيضا أسباب أخرى رافقت تجربة الأطفال السوريين. فالخوف الاجتماعي والصراعات الأسرية، والخوف من الظروف المعيشية والاقتصادية ينافس الخوف من الطائرات في نفوس الأطفال، لا سيما في ظروف التشرد والنزوح والعيش في المخيمات.

ذكرت خلاصة تقييم لاستجابة اليونيسيف الطارئة في مجال الدعم النفسي للأطفال السوريين في الأردن لعامي 2013 – 2014 “إن مستوى التوتر الذي يعاني منه اللاجئون السوريين، لم ينتج فقط من تجربة العنف المرتبطة بالحرب والفقدان السابقة بل نتيجة الظروف الحالية المادية والاجتماعية الحرجة جدا التي يمرون بها”.

ما كان يخيف به الأهل سابقا بالبعبع والغول، بات مسليا للأطفل السوريين اليوم، مقارنة بما يرونه في ظل غياب الأمن والطمأنينة في محيطهم. وبينما يهرع البالغون لاستشارة مختص أو طلب المساعدة من المقربين لدى مرورهم بأي مشكلة نفسية ولو بسيطة، يبقى الأطفال عاجزين عن الشكوى وبدون نصير، ما يطرح تساؤلا مشروعا حول قدرتهم على بناء حياتهم ومستقبلهم.

تم إنتاج هذه المادة بالتعاون مع منظمة FPU

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*