بعد ثمان سنوات اعتقال خرج ليجد أهله في خيمة نزوح

عدنان صايغ

ليس من المؤكد أنه كان يعلم بمصير أهله وبلده حين خرج من آخر فرع أمن تابع للمخابرات السورية في دمشق، بعد أن أطلق سراحه منذ ثلاثة أشهر من سجون الأسد.

عبد الناصر عبد الرحمن رزاز أحد أقدم المعتقلين في مدينة سراقب، إذ ألقي القبض عليه بينما كان يحاول مواجهة جيش قوات النظام أثناء اقتحامها للبلدة عام 2012، ووصلت أخر الأنباء عن وجوده في سجن السويداء المركزي دون أن يعرف مصيره منذ ذلك الحين.

وتناقل النشطاء في المدينة صورا ومقاطع مصورة للمفرج عنه حين وصوله إلى خيمة أهله في معرتمصرين، ولقاءه الأول مع ذويه وسط مشاعر مشحونة بالأسى والفرح.

يهيج إطلاق سراح عبد الناصر رزاز أحلام أمهات المعتقلين اللواتي تكابرن على ظنونهن بموت أولادهن في المعتقل بعد سنوات السجن، ليأتي خروجه اليوم كأمل ينبت من جديد في نفوسهن، وليعاودن نشاطهن الألكتروني في محاولة للتوصل إلى أية معلومات عن أبنائهن ممن يخرجون من السجن، لا سيما بعد ما بلغن من خبرة حول سجون النظام وأنواعها واختصاص كل سجن منها.

وبينما تنهال التبريكات على خبر إطلاق سراح المعتقل تغرق التصفحات بأمنيات الإفراج عن باقي المعتقلين، كما تحمل الكثير من التعليقات أسئلة واستفسارات تشي بما يدور في قلوب الناس من تحرق معرفة أدنى الأخبار عن معتقليهم.

في روايته «الأم» يقول مكسيم غوركي واصفاً بطلته:

“صحيح أنها كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما يفعله ابنها.. لكن إحساسها وقلبها كأم أخبرها بأنه يكرس نفسه لقضية كبيرة، قد يضحي بحياته لأجلها، أحزنها ذلك كثيراً وأشعرها بالخوف الدائم عليه، ورغم قلقها على مصير ابنها إلا أنها ككل أم تشعر بالفخر بابنها وهي تشاهده يتظاهر ويتحدث بأشياء لا تفهمها، لم تكن أمه وحده، كانت أماً لجميع أصدقائه الذين يجتمعون في بيتها، كان حنانها كأم يفيض عليهم جميعاً ويحيط بهم.. تمنحهم الدفء والحنان ويمنحونها معنى جديد للحياة.. “.

«لن أخسر ابني الثاني» هذا ما قالته أم الطاهر وهي تهيئ بعض الحاجيات قبل أن تتوجه للقاء ابنها الذي يخدم في إحدى نقاط الجيش المتمركزة في أسخن أحياء حلب في سنوات الثورة الأولى.

كانت تقابلها عيون الاستغراب وهي تسأل سائقي الحافلات عن الطريقة التي يمكن أن تصل بها الى حي صلاح الدين، كل الإجابات كانت واحدة: «ما الذي سيأخذك الى هناك؟».

أم الطاهر التي خسرت ابنها الأول باعتقال غادر، قررت أن تتصرف بسرعة في سبيل أن تحافظ على الثاني، والطريقة الوحيدة هي في انشقاقه عن الجيش، الخطوة الأولى التي وضعتها هي زيارته وترتيب أمر هروبه بالتنسيق مع مجموعة صغيرة من الجيش الحر تعهدت لها أن تساعده في الخروج من الثكنة وأن توصله إلى البيت، ولكن بعد أن أرهقتهم بكثرة اتصالاتها وأسئلتها عن أدق التفاصيل والطريقة التي يمكن أن يؤمنوا بها خروج ابنها بأمان، قال لها قائد المجموعة في الجيش الحر متبرماً: «ليس عليه سوى أن يقطع الشارع والذي لا يزيد عرضه عن عشرين متراً وسنتكفل نحن بإيصاله إليك».

بهذه الجملة انطلقت إلى أخطر نقطة في حلب، إن لم تكن أخطر نقطة في العالم، (جامع الصحابي سعد بن أبي وقاص في حي صلاح الدين بحلب)، الحي الذي تتقاسم فيه السيطرة كلاً من قوات الأسد والجيش الحر، كما تتقاسمها في الأحياء المحيطة به كحي سيف الدولة.

لم تبال بكل التحذيرات التي نصحها بها السائقون، الذين أكدوا لها أن الذهاب إلى هناك هو الموت الأكيد، قابلت تلك التحذيرات بتجاهل صلب ومضت من آخر نقطة أنزلتها الحافلة بها، مشت باتجاه ما أشار به بعض المارة على أنه اتجاه حي صلاح الدين، ولم ينسوا أن يحذروها بأن المنطقة مرصودة بأكثر من قناص، وأضافوا أن المسافة بعيدة وعليها أن تمشي بضع ساعات، كانت تسأل كل من تصادفه عن الجامع إلى أن رافقها شابان صغيران تأثرا بتصميمها وأصرا على مرافقتها إلى أقرب مكان من الجامع، مؤكدين لها أنهما سينتظران عودتها ليطمئنا عليها.

عند زاوية تفضي إلى شارع عريض تتداخل فيه السيطرة ويضع كل طرف قناصاته مترصداً الطرف الأخر، كانت هناك عائلة عجزت عن العبور، وسخرت إحدى النساء من رغبة أم الطاهر في الوصول إلى الجامع مردفة بقولها: «ألا ترين جثث الناس في الشارع».

منظر الجثث المرماة لأناس حاولوا قطع الطريق وعاجلهم القناص قبل أن يصلوا إلى هدفهم لم يثنها عن مهمتها، عندها قال لها الشابان: «الجامع أمامك يا خالة لن نستطيع أن نعبر معك وسننتظر هنا حتى عودتك».

أم الطاهر امرأة في الخمسين من عمرها، لكنها تملك رشاقة الشباب، أمضت عمرها تبني حياتها بصبر ومثابرة، لم تطلب طوال حياتها شيئاُ من أحد، كانت تدرك أن الحياة عمل وشرف، ومهمتها في إنقاذ ابنها كانت تدرج ضمن هذه الواجبات المقدسة.

موظفة بإحدى دوائر الدولة لأكثر من عشرين عاماً، وتم فصلها بقرار حكومي تعسفي بعد انطلاق الثورة بعامين عقاباً لها ولأسرتها على تضامنهم مع الثورة، ورغم عدم وجود أي توجه سياسي معارض لديها فهي أبسط من ذلك بكثير، إلا أنها كانت تدرك الصواب حين تراه، ويصعب عليها أن تلتزم الصمت أو الحياد حين يتجلى صراع الباطل والحق أمامها، من هذه الطبيعة الطيبة شدت على يدي ابنها حين خرج متظاهراً وفخرت به بعد اعتقاله، صبرت على إصابة ابنها الثالث في إحدى المعارك، واستبسلت في الدفاع عن الثورة، حاسمة كل علاقاتها مع الرماديين مهما كانت درجة قرابتهم لها.

ركضت أولى الخطوات حاملة معها ما تيسر من طعام وفاكهة لابنها ورفاقه، وصلتها صرخات تطلب منها أن تنبطح أرضاُ، لم تر أحداً لكنها أطاعت الأمر، عاد الصوت ليطلب منها التقدم زحفاً، زحفت، كانت جادة بأن تقايض حياتها بحياة ولدها.

– إلى أين أنت ذاهبة؟ – أريد أن أرى ابني

– وأين ابنك؟ – هو عسكري في هذه القطعة

– ما اسمه؟ – صرخت باسمه عالياً

أمرها الصوت بأن تقف وتركض باتجاهه ففعلت.

قالت أم الطاهر وهي تروي قصتها لزيتون: «كانت المسافة حوالي 200 متر لكنها كانت بمثابة برزخ طويل ليس له نهاية، كنت أتوقع الرصاصة بكل ثانية وأفكر كيف ستصل جثتي إلى أهلي، ومن سيتمكن من سحبي من هذا المكان؟ كنت أظن أنني سأتعفن دون دفن، لكن أكثر ما كنت أفكر فيه من الذي سيساعد محمد على الفرار بعد موتي؟».

من إحدى النوافذ المطلة على الشارع رأت مجنداً مسلحاً أرشدها إلى أحد الأبواب وحين دخلت قال لها: «هل جننت يا خالة حتى تأتي إلى هنا؟»، وأردف أن عليها أن ترى الضابط المسؤول حتى تتمكن من رؤية ابنها.

أين ابني؟ سؤالها الوحيد الذي كانت تسأله لكل من تراه، بادرها الضابط بطمأنتها والسماح لها برؤيته، لم يصدق أن أمه استطاعت الوصول إلى هنا، وحين اختلت به قالت له: «يا بني هذا هاتف به شريحة وهذا مبلغ سيلزمك وهناك مجموعة من الجيش الحر بانتظارك في الجهة المقابلة للشارع ما عليك سوى أن تخبرهم بساعة خروجك حتى يؤمنوا هروبك».

استطاعت الأم بحدسها أن تلحظ نظرة الشك في عيون الجميع نحو زيارتها وبالغاية منها، كما لاحظت عدم الثقة بابنها من قبل زملائه وأسر ابنها لها: «لقد طلبوا مني أن أطلق النار على المدنيين لكنني لم أفعل لذا قاموا بسجني جراء ذلك وهم يشكون بي ويراقبونني دائما».

وقبل أن تغادر حاولت أن تقنع الضابط بطلب إذن لابنها لمغادرة الثكنة ولو ليوم على أمل أن تجنبه المخاطرة لكنه رفض.

عادت، لم تجد الشابان لكنها قدرت أنها تأخرت بالعودة وبعد وصولها إلى البيت شعرت ببعض الارتياح لكنها لم تنهي مهمتها بعد.

بعد اتصالين مع ابنها وترتيب هروبه انقطع هاتفه عن الإجابة.. أكلتها الظنون، هل أمسكوا به، هل سمعوا حديثه على الهاتف؟، هل يمكن أن أكون قد تسببت بمقتله حين شجعته على الهرب؟، لم تستطع النوم أو الأكل طيلة أيام واهتدت إلى فكرة أن تتصل بأحد رفاقه هناك، حين كلمت ابنها جاءها صوته متعبا ومحبطاً: «لقد ضاع هاتفي، لمَ تتصلين بي؟ لن أستطيع الهرب، وسأقتل رفاقي ثم سأقتل نفسي يا أمي.. ليس من حل أخر».

رغم ما بدا من كلمات ابنها وصوته من إحباط ويأس إلا أنها تنفست الصعداء، فهو ما يزال حيا يرزق وما زال بإمكانه الهرب، شدت من همته ووعدته بزيارة ثانية قريبا.

مرة أخرى تستعد للرحلة، لكن هذه المرة تعلمت من تجربتها الأولى، وأخبرت أختها بأنها قد لا تعود، وأوصتها في حال عدم عودتها ببعض الوصايا.

رحلة العذاب نفسها أعادتها.. حين نظر ابنها إليها هذه المرة أدار وجهه ليداري بؤسه ودموعه وقلة حيلته، قالت له: «اسمع يا بني غدا سينتظرونك في الساعة 12 ليلاً عند طرف الشارع، عليك أن تهرب.. اركض فقط وتوكل على الله».

لم تصدق بعد ساعات الانتظار ما سمعته على الهاتف: «محمد صار عنا» طلبت مكالمته حتى تتأكد، حين كلمها لم تستطع أن تمنع دموعها التي فاضت فرحاً، أخبرت الجميع أن ابنها عاد إليها أخيراً، وأنه لم يخنْ أخاه، في اليوم التالي أوصل شابين من الجيش الحر محمد الى أمه.

ما زالت أم الطاهر كعادتها تبحث عن بعض المعلومات ممن يخرجون من السجن، وها هي اليوم تتهيأ لزيارة عبد الناصر كي تكيل له الأسئلة والاستفسارات.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*