الطاعون.. واقع سنوات الموت في كل مكان

زيتون – عبد الله الحسن 

الطاعون رواية فرنسية نشرت في العام 1947 لألبير كامو الجزائري المولد، حازت على جائزة نوبل للآداب بعد عشرة أعوام على صدورها، وهي إحدى أهم الروايات التي يتوجب على كل قارئ أن يطالعها، إذ لا مجال أبداً للهروب منها أو حتى تأجيلها إلى وقت آخر… راجَعها وتحدّث عنها كثيرون حول العالم، ومنها تبدأ كبرى المشكلات وتنتهي في عالم يبدأ وينتهي هو الآخر بالصراخ.

تدور أحداث الرواية في مدينة وهران الجزائرية الجامدة الكسولة -حسبما يصفها الكاتب- الخالية من أحداث جديدة تثير الشغف، يقطنها أناس من النوع صعب الاستثارة بسبب الروتين المتكرّر، إلى أن يأتي اليوم الذي تبدأ فيه جثث الفئران والجرذان بالظهور لتجتاح عدوى الطاعون المدينة، ويكتسحها الهلع مع إعلان إغلاق كافة مداخلها والمخارج.

الطاعون الذي أصاب مدينة وهران في الرواية غير حقيقي، وهران لم تعرف الطاعون في أربعينيات القرن الماضي، إلا أنها عرفت الكوليرا قبلها بمائة عام، وسبب اختيار كامو للطاعون يكمن في كونه -ضمن المخيال الجمعي البشري- شكلاً من أشكال العقاب الإلهي القادم من السماء، جاء به الكاتب من الميثولوجيا، إذ يرد أقدم ذكر له حسب البعض في ملحمة «اتراحسيس» البابلية، حيث يزعج ضجيج البشر المتكاثرين الإله «إنليل»، فيأمر «اللجنة المركزية» للآلهة بإسكاته: «هذا الصخب الذي يحدثونه يمنع عيني من الرقاد… فليكن ثمة طاعون يسكتهم!».

لم يقصد كامو مدينة وهران بقدر ما أراد الإشارة إلى واقع فرنسا في الحرب العالمية الثانية بعد أن اجتاحتها القوات النازية، وانهارت مع دخول ذاك الغازي الأمة الفرنسية المعتدّة بنفسها، وغمرها شعور عميق بالخزي والعار… وهران في الرواية تحتلّ شوارعها الجرذان والفئران، ويسودها عدل مطلق، إذ الجميع محكوم عليهم ومتساوون أمام هذا الداء؛ لم يكن للمدينة أمل بمساعدة خارجية إطلاقاً، ولم يكن بوسعها أيضاً إلا أن تبتكر الحل من الداخل، أو أن يهلك الجميع.

تصوّر أحداث «الطاعون» الطريقة التي يتعامل بها المحاصَرون مع المصائب الكبرى؛ (رجال الدين) يفسّرونه على أنه وباء من الرب ناتج عن فساد قلوب الناس وضياعهم في متاهات الدنيا وملذاتها، وتتلخّص حلولهم الوحيدة في «العودة إلى الله»، حتى أنهم كلما ازدادت أعداد الضحايا ازداد تشبّثهم بمعتقداتهم أكثر، وذلك كـ رد فعل عكسي تجاه الشكوك التي تساورهم ليل نهار من أن (الإله) يخذلهم ويختبرهم.

السياسيون يلقون الخطب ويقيمون النصب التذكارية للضحايا، ويطالبون الجميع بأن يثقوا ويتشبّثوا بمحافظ المدينة الذي سيخلّصهم بلا شك، والمشرّدون يمثّلون مرحلة الأمل غير المبرر، يجتمعون كفريق من المتطوعين يعملون تحت إشراف الأطباء، تبدو عليهم ملامح الحماسة والشغف بإنقاذ الأرواح، إلا أنهم عملياً يائسون ولامبالون يحاولون إنقاذ أنفسهم عبر الآخرين وسط المدينة المحاصرة.

والصحفيون من جانبهم يمثلون حالة الأمل، لكن ليس فيما يتعلّق بالخلاص من الطاعون، إنما بالسعي نحو الخروج من المدينة المشؤومة، يحاولون بكلّ الطرق القانونية وغير القانونية عبر التودّد والإقناع بأهمية خروجهم من هذا المستنقع إلى مدن أخرى لنقل صورة ما يجري، وهم في الداخل أنانيون بشكل مفرط، يظهرون مشاعرهم تلك على أنها إحدى أشكال الكفاح.

أما الشخصية الرئيسية في العمل فقد كان الطبيب «ريو»، الذي عبّر من خلاله كامو عن مواجهة الموت بالثبات والمقاومة العقلانية من الداخل، كان يعلم ريو جيداً أنه لن يحط جيش أو تعداد هائل من الملائكة على شواطئ المدينة لإنقاذها، كان يعلم أن كل من فيها هم جزء من هذا الطاعون، أنهم أداة من أدواته وإحدى تبعاته الأصلية حتى حين يحاولون النجاة، وأنهم مهما ظلوا ينتظرون من يخلّصهم إنما هم يتحولون إلى طاعون آخر تتسع دائرته يوماً بعد يوم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*