“مكني الاصطياد لا تعطني سمكة”.. سعي النازحين في البحث عن عمل

بريء سليمان أحد مهجري مدينة سراقب في جرابلس

زيتون – رامي إبراهيم  

يدرك بريء سليمان المهجر من مدينة سراقب أن حظه في العثور على عمل في مدن النزوح الشمالية لم يحالف الكثيرين من الشبان النازحين أمثاله، مئات الآلاف من الشبان الذين اكتشفوا خلال أيام قليلة بعد تهجيرهم أنهم باتوا بلا عمل يسدون به رمق عائلاتهم وتكاليف الحياة الجديدة في حمى وفوضى موجات النزوح العنيفة.

أبرم بريء سليمان اتفاقا يعتبره عادلاً مع صاحب ورشة لصيانة السيارات في مدينة جرابلس بعدما اختارها هدفا لنزوحه لبعدها عن مدافع ونيران قوات النظام المتقدمة، وينص الاتفاق على أن يدير بريء الورشة بخبرته التي يمتلكها مقابل نسبة ربح جيدة دون تدخل المالك، وقد نجح بفترة الاختبار التي اشترطها المالك في البداية، كما نحج بكسب ثقة الزبائن وأثبت قدرته على التعامل الجيد مع محيطه الجديد ما جسد نموذجا ناجحا للكثير من النازحين.

ويتنفس الشاب السراقبي الصعداء لمعرفته أن حصوله على هذا العمل يجنب عائلته مصيبة العيش بالمخيمات، التي يراها ككابوس يهدد الكثير من النازحين الذين استأجروا بما بقي لهم من مدخرات بيوتا ربما لن يستطيعوا المكوث بها طويلا دون عمل.

بعد مرور ما يقارب ستة أشهر على نزوح الأرياف الجنوبية والشرقية التي تقدمت إليها قوات النظام، واضمحلال الأمل لدى الأهالي بالرجوع إلى مدنهم وبلداتهم، بات هاجسهم الأوحد اليوم حول قدرتهم على الصمود في وجه مستحقات النزوح الباهظة محتفظين بالحد الأدنى من الكرامة، تأتي هذه التحديات في ظل سلبهم كل ما يملكون واقتلاعهم على وجه السرعة من وسط أعمالهم وأرزاقهم، ما جعلهم عاجزين عن البدء بأي مهنة كانوا يمارسونها من تجارة أو زراعة أو مهن حرفية.

وتتآلب المصاريف من إيجار البيت الذي لم يعد مبلغا يمكن تجاوزه بسهولة لتضخم الطلب على المنازل، كما بات الكثير من أصحابها يطالبون بإيجار الشهور الثلاث أو الست القادمة، هذا بعد أن تكبد النازح تكلفة النقل لبعض ممتلكاته، والتي وصلت في كثير من الأحيان لمساواتها لإيجار شهر تقريبا.

أعباء تأسيس البيت وتزامن النزوح مع اشتداد برودة الطقس وارتفاع أسعار المواد الغذائية والخضار، وغياب أي سلطة تحد من جشع التجار أو الانتهازيين أودت بالنازحين إلى العدم.

إصرار النازحين على العمل

رافضا الاعتماد على سلل الإغاثة، ومصمما على أن يكون قوت عائلته من عرقه قدر الإمكان، يعاود “محمد شحود” افتتاح معمل الألبان للمرة الثانية بعد اضطراره لنقل المعمل بسبب شكاوى بعض الجيران من روائح المعمل.

واستطاع محمد بعد عناء تأمين محل ومستودع لمشغل لبن وبسعر مناسب له، رغم صغره وعدم توافر شبكة للصرف الصحي فيه، ما تسبب بانتشار روائح الطبخ والحليب.

ويردف محمد أنه تمكن من إيجاد محل آخر مخدم بالصرف الصحي لكن بسعر أغلى، ورغم ذلك بدأ بمشروعه مرة أخرى سعيا منه لاستمرار عمله، فيما تستمر مشاكل تأمين الحليب وغلاء بعض المعدات وقلة معرفته بالمنطقة وعدم انتشار سلعته بالمدينة.

إصرار محمد على عمله نابع من قناعته بقيمة العمل في حياته المادية والنفسية، وهو السبيل الوحيد كي يحفظ حياة أسرته ويبقيه في منزل يبلغ إيجاره 100 دولار أمريكي إضافة إلى إيجار مشغل اللبن، وهو ما يفوق دخله المتواضع، لكنه يفضل المحاولة على الجلوس عاجزا على أمل تحسن أوضاع عمله.

عصف النزوح الأخير بالأهالي، ووضعهم أمام ضياع وظرف لم يظنوا أنهم سيقعون فيه، وخلق تقدم قوات النظام إلى مدنهم وفرارهم منها محنة لشباب ثاروا من أجل كرامتهم وحريتهم ليجدوا أنفسهم أمام قاتلهم المجرم المتعطش لدمهم، وشبيحته “المعفشة” التي لم توفر جهدا في التشفي من السوريين.

“محمد طلعت الخاني” مهجر من ريف إدلب، وجد أن البدء بمشروع صغير وبسيط قد يكون أقل مجازفة، ويعمل حاليا على بيع القهوة السريعة.

محمد طلعت الخاني أحد مهجري مدينة سراقب

يقول الخاني لزيتون:

“أي شخص خرج من مدينته سيلاقي الويلات لتأمين منزل وعمل، وأغلب المهجرين باتوا معدمين بعد تسع سنوات من الحرب لم يعد لديهم المال الكافي لدفع إيجار منزل أو محل ورغم ذلك فهم مضطرون للبحث عن عمل لاستمرار الحياة”.

ومن حسن حظ الخاني أنه تمكن من بيع أرضه الزراعية التي ورثها عن أبيه والتي ساعدته كثيرا في نزوحه وشرائه لماكينة الإكسبريس، ثم عانى بعدها من إيجاد المكان المناسب في مدينة إعزاز بريف حلب، إذ كان عدد بائعي القهوة كبير جدا، فعاد إلى مدينة إدلب ليمارس عمله.

بألم الثائر ذو الكرامة يؤكد الخاني على عدم ندمه بالمشاركة في ثورة الحرية والكرامة مهما لاقى من صعوبات، مفضلا العيش بالمخيمات على أن يكون تحت سيطرة نظام مجرم ووضيع.

ما كل ما يتمناه المرء يدركه

نسبة ضئيلة من النازحين هم من تمكنوا من مزاولة أعمالهم، في حين ظل القسم الأكبر عاجزا عن البدء بأي عمل، ولا تقتصر الصعوبات على غلاء الإيجارات، بل يمثل الوقت المطلوب لنجاح العمل أحد المشاكل المهمة لدى البعض، ولأن الوقت الطويل هو تكلفة كبيرة يتردد “رامي درويش” ذو 33 عام وهو أب لطفل ومهجر منذ شهرين من ريف إدلب بالبدء بافتتاح عمله كخياط، لا سيما في وقت يجد فيه صعوبة تأمين مبلغ إيجار المنزل.

رامي درويش أحد المهجرين من مدينة سراقب

ويشير رامي إلى أن معظم أصحاب المنازل والمحال يشترطون دفع إيجار ثلاثة أشهر على الأقل بشكل مسبق، وتزيد المخاطر بالمغامرة  بعدم معرفة مدى تقبل الناس في مدن النزوح لعمله، لا سيما في مجال الخياطة التي تتغير بها أهواء الأهالي من مدينة إلى أخرى، وهو ما يدفع برامي للخوف من الفشل وعدم قدرته على كسب الزبائن فيضيف عبئا آخر عليه.

وما يزال رامي يحلم بالعودة إلى مدينته وبيته، وهو الحل الأمثل لمشاكل النزوح المر، ولكنه يعيش الآن بين فكي كماشة الحيرة والحاجة منتظرا ككل النازحين.

تختلف ميول الناس وطبيعة الأعمال من منطقة إلى أخرى، كما تختلف طرق العمل وآلياته من مدينة إلى أخرى، ولكل صاحب مهنة طريقته الخاصة التي يشتهر بها، وهو ما يخلق حجر عثرة أخرى أمام العاملين في مجال البناء.

معلم اللياسة “محمود عوني” لم يوفر جهدا في البحث عن عمل في مدن النزوح، لكنه كان يرى تفضيل أصحاب الورش لأبناء المنطقة على النازحين وذلك لأسباب عدة من أهمها الانسجام ضمن العمل.

ويعتب محمود بمرارة على البعض من أصحاب الورش في محاولتهم انتهاز حاجة النازحين وتخفيض أجورهم أو المماطلة بها، مستبعدا قدرته على امتلاك معدات للبدء بعمله الخاص، والتي تحتاج إلى عمل طويل كي يوفر ثمنها، بعد أن عجز عن إخراج معداته من بلدته قبيل احتلالها من قوات النظام.

في محنتهم يحاول اللاجئون والمغتربون السوريون في أوروبا مد يد العون لأسرهم وأقاربهم ومساندتهم للتخفيف من معاناتهم، ما بات الوسيلة الوحيدة لدى شريحة كبيرة من النازحين للعيش.

ففي بلدته بريف إدلب كان يعيش “خالد حمود” (40 عاما) مما تقدمه له أرضه الزراعية مستعينا بها على إعاقته في يده وقدمه، لكنه اليوم يعول على ما يرسله له أخيه المغترب في تأمين حاجياته، كما يلجأ إلى بعض المنظمات التي قد تقدم له أحيانا مساعدة في إيجار المنزل، لكنه في بعض الحالات يضطر إلى بيع بعض أثاث منزله للعيش، في وقت تقف إعاقته عثرة أمامه في إيجاد فرصة عمل.

خالد حمود

“أرمي سنارتي وأنتظر بصبر يوازي حجم ألمي”

“رياض باكير” أب لثلاثة أطفال، يبلغ من العمر 47 عاماً، بعد يأسه من إيجاد عمل في نزوحه قرر امتهان صيد السمك في نهر الفرات بمدينة جرابلس، وهناك على ضفاف النهر يجلس منتظرا رزقه، ورغم قلة كرم النهر عليه وتفاقم الحاجات ما يزال رياض يحلم بالعودة إلى مدينته أو بصيد وفير، في عتب عارم على الحياة.

رياض باكير مهجر يمارس مهنة صيد السمك في نهر الفرات

يضطر الكثير من النازحين إلى الانتقال بين مدن النزوح في محاولتهم لإيجاد فرص عمل أفضل، فالبلدات الصغيرة والتي تتوفر فيها منازل بإيجارات رخيصة تحرمهم في المقابل من فرص العمل، بينما توفر المدن الكبرى أعمالا مقابل إيجار منازل غالية، في حين أن مدينة إدلب تمنح كلا الميزتين للنازحين من حيث توفر الأعمال ورخص الإيجارات بشكل نسبي، ما يجعلها مقصدا للنازحين في الشمال.

يعتزم “صدام خليل” الانتقال إلى مدينة أخرى في سعيه للحصول على عمل في مهنته بقص الحجارة بعد أن عجز عن إيجاد عمل لدى مناشر الحجر في مدينة جرابلس، رغم معرفته بحجم التكاليف التي سيتكبدها جراء عملية الانتقال.

صدام خليل أحد مهجري ريف إدلب في جرابلس

إمكانيات محدودة للمجالس المحلية أمام طوفان النزوح

وكانت المنظمات التي تعنى بشؤون اللاجئين والنازحين ومنها منسقو استجابة سوريا قد وثقت نزوح أكثر من 163 ألف عائلة تضم نحو 1,041,233 مليون مدني، بينهم أكثر من 119 ألف نازح يقيمون في العراء وتحت أشجار الزيتون، منذ تشرين الثاني 2019، وسط أوضاع مأساوية للغاية.

وعما تقدمه المؤسسات المحلية لمساعدة النازحين قال مسؤول مكتب المهجرين والإغاثة في المجلس المحلي لمدينة جرابلس “حسام الدادا” لزيتون: “إن عدد العائلات المهجرة التي وصلت إلى منطقة جرابلس بلغت حوالي 3 ألاف عائلة فقط في الفترة الأخيرة، باستثناء لمهجرين السابقين من أهالي دير الزور وقراها والميادين وحمص والغوطة”

ويضيف “الدادا” إن هذا العدد يفوق قدرة استيعاب المدينة لهم من جميع الجهات سواء السكنية أو الخدمية أو الاغاثية، مشيراً أنه لا يستطيع كجهة رسمية أن يفرض على أصحاب المحلات والمنازل تخفيض إيجاراتهم.

كما بين “الدادا” أن المجلس المحلي في مدينة جرابلس لا يملك سوى محال تابعة لمديرية الأوقاف، وهي مؤجرة مسبقا لأهالي المدينة، موضحا أن المجلس أشرك نسبة 2% من النازحين الجدد بوظائفه في المدينة وريفها.

هذا وتقدم منظمات الأمم المتحدة مساعدات تعترف بقصورها عن تلبية الحد الأدنى من مستلزمات السوريين لا سيما النازحين، ونظرا لاتساع الفجوة بين احتياجات السوريين والموارد المتاحة لدعمهم، ذكر منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي في الأمم المتحدة للأزمة السورية “بانوس مومسيس”، أن ما تقدمه الأمم المتحدة من مساعدات يغطي المستوى الأدنى لتلك الاحتياجات، مشيرا إلى أن أكثر من 80% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، مع ارتفاع نسبة البطالة والدمار داخل سوريا.

رأي الأهالي

يرى الحاج عبد الله خالد الخالد أحد تجار الخضار في مدينة جرابلس وهو رجل كبير في السن يملك محلين لبيع الخضروات والفواكه في سوق المدينة، أن موجة النزوح الأخيرة تسببت برفع إيجارات المحال والمنازل على حد سواء، إذ لم يكن إيجار المحل يتجاوز 40 ألف ليرة سورية بينما وصل اليوم إلى ضعف المبلغ على الأقل.

وبحسبة بسيطة يوضح الحاج عبد الله عجز الأهالي عن تشغيل النازحين معهم: “عائلتي مكونة من 9 أفراد تحتاج لما يقارب 75 ألف ليرة سورية لشراء الخبز فقط شهريا، فضلا عن المصروفات الأخرى من إيجار ونقل البضائع وهو ما دفع بأبنائه الأربع للعمل معه في المحال، ما يجعل من تشغيل أياد أضافية أمرا غير منطقي”.

ولا يعتبر الحاج عبد الله أن عمل النازحين منافسة له، كما أنه لا يشعر بالخوف من افتتاح البعض محال خضار في السوق مؤمناً بأن الرزق على الله بحسب قوله.

سوق الخضار في مدينة جرابلس – زيتون

“عمران الأحمد” أحد سكان المدينة ويملك مغسلة للسيارات، قال أنه بدأ منذ فترة بالبحث عن شاب من المهجرين يجيد العمل في المغسلة ليعمل معه، وهو لا يجد أي مشكلة بعمل الشباب المهجرين في بلده، مؤكدا أن جميع النازحين أخوة له، وهم الأشد حاجة إلى العمل في هذا الوقت أكثر من غيرهم.

في منظومة معقدة من الصعوبات والفوضى، يقف السوري في نزوحه المفروض من نظام ماجن ومن سلطة أمر واقع متمثلة بهيئة تحرير الشام لا تكترث لمن ادعت نصرتهم، لتترسخ أرضية غير مستقرة أسستها الفوضى الأمنية وغياب القانون، ولاعبوها الأساسيين ليسوا سوريين، ما يعبث بحياة الناس وأسباب رزقهم، في ضياع جديد ودوامة لا يبدو أنها قريبة من النهاية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*