المأساة تتكرر.. رواية مزرعة الحيوانات لجورج أوريل وتطابقها مع القصة السورية

عدنان صايغ
حين كتب الروائي البريطاني “جورج أوريل” روايته “مزرعة الحيوان” عام 1954، حاول أن يضع فيها عناصر الاستبداد والقمع التي تحكم الحياة البشرية في كل مكان، ومن هنا كان تطابق الرواية مع الواقع السوري في السنوات الأخيرة أمرا غير مستغرب، وقدمت من خلال أحداها إجابات كثيرة حول تساؤلات ما زال السوريين حتى اليوم عاجزين أمامها.


تصور القصة باختصار كيف أن الثورات على الطغاة لا تكفي، إن لم تحمي تلك الثورات نفسها ممن قاموا بها، أو تمنعهم من الانزلاق إلى التشبث بالسلطة كمن ثاروا عليهم، وتشدد على ضرورة الحذر من عودة المستبدين بصور أولها مناصرتهم للثورة.

ليس للرواية أن تختصر إلا بذاك التشابه الحقيقي في حياة الحيوانات المستعبدة والشعوب المغلوبة على أمرها، وما عبارة مزرعة القصر، إلا تجسيدا لما ردده السوريين عن مزرعة آل الأسد، وما الهوان والذل الذي يحسه السوريين إلا مشاعر مشتركة مع حيوان أسير، ومن سخرية الأقدار أن مالك المزرعة أقام بعد طرده من قبل حيواناتها مسكنا يدعى “حانة الأسد الأحمر”.

في حلم غريب يراود “ميجر” في مزرعة في بريطانية، يجمع الخنزير العجوز حيوانات الغابة ليحكي لهم عن حلمه ووصيته الأخيرة، وبعد أن يتساءل عن طبيعة وجود الحيوانات وسبب هوانها وعبوديتها، وكيف للإنسان وهو الحيوان الوحيد الغير منتج أن يتحكم بها، ويحرض العجوز الحيوانات على الثورة ضد الإنسان وبناء مجتمع عادل.

“لنقم بثورتنا، متى موعد الثورة؟ هذا ما أجهله، خلال أسبوع ربما أو خلال قرن، لكن مثلما أشعر بالقش تحتي فإن العدل سيحل عاجلا أم آجلا، لا ترفعوا أعينكم عن الهدف، طيلة ما بقي من سنين عمركم، لكن قبل كل شيء بلغوا قناعاتي لمن سيأتون بعدكم حتى تتابع الأجيال القادمة النضال حتى النصر النهائي”.

ويروي العجوز كيف حلم بأرض تخلو من البشر والظلم، وكيف أرجعه هذا الحلم إلى ذكرى أغنية كانت أمه تغنيها مع صديقاتها “ستختفي الحلقات من الأنوف، ستختفي السروج من ظهورنا، ستسقط السياط المجرمة، المهاميز الشكائم إلى الخراب”.

هذا النداء التحريضي في الرواية ينسجم مع كل أمجاد الماضي لدى السوري، عن زمن كان له فيه كامل الكرامة الإنسانية، وزمن كان له دوره الأبرز بين الشعوب، ما فعله حلم ميجر في نفوس الحيوانات، هو ذاته ما أثارته ثورات الربيع العربي، هو التاريخ العريق لأرض الحضارات والديانات.

الرواية التي كتبت عن الثورة الروسية، رمزت إلى الخنزير العجوز بكارل ماركس منظر الشيوعية، وإلى الخنزير نابليون إلى ستالين، ومن المفارقات أن سياسة هذا الدكتاتور هي من أوصلت إلى سياسة موسكو الحالية في دعم نظام الأسد في سورية.

تقوم الثورة في المزرعة ويتم طرد صاحبها، ولتبدأ بعدها مرحلة قيادة المزرعة من قبل الحيوانات التي يسيطر على إدارتها نموذجين متناقضين، يمثلهما خنزيران هما “سنوبول” و”نابليون”، الأول يسعى إلى تطوير المزرعة بما يخدم مصالح الحيوانات ويزيد بسعادتها، مستعينا بالعلم والتخطيط، فيما يعارض الثاني كل شيء مستعينا بقوته الجسدية.

وفي أول رد فعل للحيوانات بعد ثورتها هو التأكد من خلو المزرعة من أي إنسان، وسارعت لمحو آخر آثر من النظام المقيت، فكسرت باب غرفة السروج ورموا في البئر الخطامات والشكائم وحلقات الأنف، وكل السكاكين القاتلة التي كانت تستعمل لخصي الخنازير، كما رمت الأعنة والأرسنة، كل ذلك تم حرقه، هذا ما حدث أيضا في كل المناطق السورية التي تحررت من نظام الأسد، فلا أحد ينسى مشاهد حرق صور الأسد، وتكسير تماثيله، وحرق مراكز حزب البعث والمباني الأمنية التي تمثل السلطة.

ومثلما عملت الحيوانات على تدمير كل ما يذكرهم بسيد المزرعة، عمل الثوار في سوريا على مسح كل ما يمت لتمجيد النظام من كتب المدارس، بتطهير وكأنه رجس للمناهج التعليمية التي كانت طيلة سنوات تلوث كتب التعليم.

لم يفت الحيوانات المنتصرة أن تدون وصايا ثورتها، وبسبعة قوانين تمكنت من اختصار أهدافها: “كل من يسير على قدمين هو عدو، كل من يسير على أربع فهو صديق، ممنوع ارتداء الملابس، ممنوع النوم على الأسرة، ممنوع شرب الخمر وقتل حيوان آخر، كل الحيوانات متساوية.

في المقابل كانت الكرامة والحرية والمساواة وبناء دولة القانون والتعددية، أولى ما قدسته الثورة السورية وتمسك به شهداؤها حتى في أقبية السجون.

الغلة الوفيرة التي نتجت من عمل الحيوانات بحريتها في حقول المزرعة بعد سقوط سيدها، سمح للخنزير نابليون بتربية عدة جراء أخذهم من أحدى الكلبات بعد أن قرر أن تربية الصغار مسؤولية مهمة سيتولاها، ليحول هؤلاء الجراء إلى كلاب شرسة تسمح له بالاستيلاء على السلطة بالقوة، وتهديد كل معارض له، والتخلص من المناوئين لسلطته.

تماما، كما سمحت مساحة الحرية في ازدهار العمل المدني وبروز الإبداع بطفرة لم يشهدها السوري سابقا في كثير من المجالات، لكنها سمحت أيضا باستقدام عناصر القاعدة من كل مكان، لتوطد سلطة الإسلاميين الذين قفزوا ليستولوا على السلطة في المناطق المحررة بقوة السلاح والتهديد، وما نابليون جورج أوريل إلا البغدادي والجولاني في الثورة السورية.

لقد اختارت الحيوانات علمها الأخضر مرسوم عليه قرنا وحافر، رفعوه على عمود في المزرعة، كما كان للثورة علمها الأخضر أيضا وما زال، لكن كلا الطرفين صمتوا عن بعض التجاوزات التي قام بها البعض خوفا من عودة النظام السابق، هذا الصمت سمح لنابليون بسرقة الحليب لتنشئة الكلاب التي ستصبح جهاز قمعه وجيشه.

كما وجدت الخنازير صعوبة كبيرة في دحض الأكاذيب التي كان يروجها موسى الغراب المدجن الذي كان مخبرا للسيد صاحب المزرعة، موسى كان يدعي بوجود بلد سري يقال له جبل الحلوى في السماء وراء الغيوم مليء بالعشب والحلوى على مدار العام.

في أبرز ما قدمه الكاتب أوريل في روايته هو ذاك الشعور الذي بدا واضحا في تباعد مشاعر الحيوانات قبيل ثورتها، ومدى تفاوت الرؤى والتطلعات التي بينها، واختلاف المخاوف، وهي حقيقة وضع جورج يده عليها بشكل واضح، إذ دائما ما يعمل المستبد على تقسيم المجتمع، وتفتيته وبث المخاوف في مكوناته الاجتماعية والمذهبية، ليضمن بذلك سيطرته وقدرته على التحكم في البلاد.

وليس خافيا على أحد ما عاناه الشعب السوري من غربة عن بعضه، فقد بدا أن السوريين باتوا يسمعون لأول مرة أسماء بلداتهم ومدنهم، كما باتوا يتناقشون لأول مرة فيما بينهم متجاوزين تقسيماتهم الطائفية والجغرافية في ظل الثورة.

وكما يتخوف أصحاب المزارع المحيطة بمزرعة الحيوانات من امتداد الثورة إلى مزارعهم، تخوف قادة عرب من وصول تأثيرات الربيع العربي إليهم، وكان صاحب مزرعة فوكسوود هو سياسات الخليج العربي ودول الجوار بالتعامل مع الثورة السورية، وبتقديم الدعم المحدود والموجه تمكنوا من حرف الثورة وتحطيم أهدافها، وهو ما رمزت له الرواية بتدمير الطاحونة التي ضحت من أجلها الحيوانات طويلا.

تستعرض الرواية الزمن الجميل للثورة، وانتشارها بين حيوانات المزارع الأخرى، وتشيد بما حققوه من حياة منتجة وتخطيط حكيم، حتى باتت حكاية الحيوانات في كل انكلترا.

ولم يتمكن الخنزير سنوبول رغم ما أبداه من قيادة ذكية للمعركة التي شنها عليهم صاحب المزرعة، والتي انتصرت بها الحيوانات بفضل سنوبول، لم يتمكن هذا الخنزير من الوقوف أمام خيانة نابليون، الخنزير المتعطش للسلطة، مستخدما جراءه التي باتت كلابا شرسة، والتي تغذت على حليب المزرعة في زمن الحرية.

لا تفوت الرواية أدق التفاصيل فيما يجري بالثورات، فهي تصور أولئك المتفانون في العمل لإنجاحها، وتصور كذلك المتخاذلون، الذين لا تزال بعض المصالح تشدهم إلى عودة النظام السابق، يدفعهم في الكثير من الأحيان إلى التعاون مع المستبدين القدامى، والمستبدين الجدد، ليحافظوا على بعض المكاسب، تشير الرواية إلى شرائح مجتمعية إيجابية وأخرى سلبية، كل بحسب ثقافته وعلمه، وتحذر بشكل كبير من جهل الرعية، وسكوتها عن حقوقها، ليكون الظلم الأول بعد الثورة هو بداية لحاكم مستبد جديد.

فيما يتمكن الحاكم الجديد من فرض سيطرته سيعيد صياغة الأهداف من جديد، لتتحول الكرامة والحرية إلى خلافة وأمارة إسلامية، كما تتحول شعارات التعددية والتعايش إلى مصطلحات كراهية وتكفير وإلحاد، في عودة جديدة للغربة بين أفراد المزرعة، وليكتشف من بذلوا كل ما لديهم أنهم لم ينجزوا سوى ظالم آخر.

يحول نابليون خصمه المهزوم سنوبول إلى خائن عميل، ويحول هزيمته في المعركة الجديدة إلى انتصار، وتغدو تهم التعاون مع سنوبول هي التهمة الجاهزة لأي مناهض لحكمه، يمعن الظلم فيوجه بعض أعوانه لتعديل على وصايا الثورة، لتسمح له بالنوم على الأسرة ومعاقرة الخمر وحتى المشي على قدمين، ويتحول شعار معاداة الإنسان إلى معادة صاحب مزرعة فقط، ثم ليمسح بقبضته الأمنية وببطش أجهزته العسكرية كل ما قدسته الثورة وأوصت به.

تكشف الحقيقة عما يتبعه الحكام من أساليب لقلب الحقائق، ومن خلال الأكاذيب وتكرارها تصبح الأكاذيب حقائق وبديهيات، يرسخها المنتفعين من الحاكم، ومع صمت الرعية، وبمرور الوقت، تعود المزارع إلى سابق عهدها كمزارع قصر، وتنسى نشيدها الوطني، لتتقوقع في دائرتها الضيقة، بعدما تفقد الثقة في المستقبل، وتعود لترى الآخرين أعداء لا يمكن العمل معهم في مستقبل قاتم هو أِشبه بسجن.

تعود العبودية وتكتظ السجون وتزداد التهم، بالمقابل تزداد صلاحيات الحاكم وتتنامى ثروات الموالون له، وتتفاوت الطبقات بين الثراء والفقر، حتى تصل المقصلة إلى رقاب الأكثر وفاء للحاكم، ليكتشف الجميع أن العمل للثورة إن لم يرافقه وعي كامل في مسار هذا العمل فقد ينقلب وبالا عليها.

ملخص كرتوني لرواية حيوانات المزرعة
https://www.youtube.com/watch?v=Ri6VRsTudug

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*