أم الطاهر.. قصة أم مشت صوب الموت وفعلت المستحيل كي ترجع ابنها

في روايته «الأم» يقول مكسيم غوركي واصفاً بطلته:

“صحيح أنها كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما يفعله ابنها.. لكن إحساسها وقلبها كأم أخبرها بأنه يكرس نفسه لقضية كبيرة، قد يضحي بحياته لأجلها، أحزنها ذلك كثيراً وأشعرها بالخوف الدائم عليه، ورغم قلقها على مصير ابنها إلا أنها ككل أم تشعر بالفخر بابنها وهي تشاهده يتظاهر ويتحدث بأشياء لا تفهمها، لم تكن أمه وحده، كانت أماً لجميع أصدقائه الذين يجتمعون في بيتها، كان حنانها كأم يفيض عليهم جميعاً ويحيط بهم.. تمنحهم الدفء والحنان ويمنحونها معنى جديد للحياة.. “.

«لن أخسر ابني الثاني» هذا ما قالته أم الطاهر وهي تهيئ بعض الحاجيات قبل أن تتوجه للقاء ابنها الذي يخدم في إحدى نقاط الجيش المتمركزة في أكثر أحياء حلب خطورة.

كانت تقابلها عيون الاستغراب وهي تسأل سائقي الحافلات عن الطريقة التي يمكن أن تصل بها الى حي صلاح الدين، كل الإجابات كانت واحدة: “ما الذي سيأخذك الى هناك؟”.

أم الطاهر التي خسرت ابنها الأول باعتقال غادر عام 2011، قررت أن تتصرف بسرعة في سبيل أن تحافظ على ابنها الثاني، والطريقة الوحيدة هي في انشقاقه عن الجيش.

وضعت الأم خطتها وكانت الخطوة الأولى هي زيارته وترتيب أمر هروبه بالتنسيق مع مجموعة صغيرة من الجيش الحر، تعهدت لها أن تساعده في الخروج من الثكنة وأن توصله الى البيت، ولكن بعد أن أرهقتهم بكثرة اتصالاتها وأسئلتها عن أدق التفاصيل والطريقة التي يمكن أن يؤمنوا بها خروج ابنها بأمان، قال لها قائد المجموعة في الجيش الحر متبرماً: “ليس عليه سوى أن يقطع الشارع والذي لا يزيد عرضه عن عشرين متراً وسنتكفل نحن بإيصاله إليك”.

بعد هذه الجملة انطلقت الى أخطر خط تماس في حلب، إن لم تكن أخطر نقطة في العالم، إلى نقطة عسكرية تابعة لقوات النظام تمركزت في جامع الصحابي سعد بن أبي وقاص في حي صلاح الدين بحلب، الحي الذي تتقاسم فيه السيطرة كلاً من قوات الأسد والجيش الحر، كما تتقاسمها في الأحياء المحيطة به كحي سيف الدولة.

لم تبال بكل التحذيرات التي نصحها بها السائقون، الذين أكدوا لها أن الذهاب الى هناك هو الموت الأكيد، قابلت تلك التحذيرات بتجاهل صلب ومضت من آخر نقطة أنزلتها الحافلة بها، مشت باتجاه ما أشار به بعض المارة على أنه اتجاه حي صلاح الدين، ولم ينسوا أن يحذروها بأن المنطقة مرصودة بأكثر من قناص، وأضافوا أن المسافة بعيدة وعليها أن تمشي بضع ساعات، كانت تسأل كل من تصادفه عن الجامع الى أن رافقها شابان صغيران تأثرا بتصميمها وأصرا على مرافقتها الى أقرب مكان من الجامع، مؤكدين لها أنهما سينتظران عودتها ليطمئنا عليها.

عند زاوية تفضي الى شارع عريض تتداخل فيه السيطرة، ويضع كل طرف قناصاته مترصداً الطرف الأخر، كانت هناك عائلة عجزت عن العبور، إحدى السيدات سخرت من رغبتها في الوصول الى الجامع  بقولها: “ألا ترين جثث الناس في الشارع”.

منظر الجثث المرماة لأناس حاولوا قطع الطريق وعاجلهم القناص قبل أن يصلوا الى هدفهم لم يثنها عن مهمتها، عندها قال لها الشابان: “الجامع أمامك يا خالة لن نستطيع أن نعبر معك وسننتظرك هنا حتى عودتك”.

أم الطاهر امرأة في الخمسين من عمرها، لكنها تملك رشاقة الشباب، أمضت عمرها تبني حياتها بصبر ومثابرة، لم تطلب طوال حياتها شيئاُ من أحد، كانت تدرك أن الحياة عمل وشرف، ومهمتها في إنقاذ ابنها كانت تدرج ضمن هذه الواجبات المقدسة، التي تراها واجب لا يمكن لأي خطر ولو كان ثمنه الحياة ذاتها أن يمنعها عن تأديته.

موظفة بإحدى دوائر الدولة لأكثر من عشرين عاماً، وتم فصلها بقرار حكومي تعسفي بعد انطلاق الثورة بعامين عقاباً لها ولأسرتها على تضامنهم مع الثورة، ورغم عدم وجود أي توجه سياسي معارض لديها فهي أبسط من ذلك بكثير، إلا أنها كانت تدرك الصواب حين تراه، ويصعب عليها أن تلتزم الصمت أو الحياد حين يتجلى صراع الباطل والحق أمامها، من هذه الطبيعة الطيبة شدت على يدي ابنها حين خرج متظاهراً وفخرت به بعد اعتقاله، صبرت على إصابة ابنها الثالث في إحدى المعارك، واستبسلت في الدفاع عن الثورة، حاسمة كل علاقاتها مع الرماديين مهما كانت درجة قرابتهم لها.

ركضت أولى الخطوات حاملة معها ما تيسر من طعام وفاكهة لابنها ورفاقه، وصلتها صرخات تطلب منها أن تنبطح أرضاُ، لم تر أحداً لكنها أطاعت الأمر، عاد الصوت ليطلب منها التقدم زحفاً، زحفت، كانت جادة بأن تقايض حياتها بحياة ولدها.

– الى أين أنت ذاهبة؟

– أريد أن أرى ابني

– وأين ابنك؟

– هو عسكري في هذه القطعة

– ما اسمه؟

– صرخت باسمه عالياً

أمرها الصوت بأن تقف وتركض باتجاهه ففعلت.

قالت أم الطاهر وهي تروي قصتها لزيتون:

كانت المسافة حوالي 200 متر لكنها كانت بمثابة برزخ طويل ليس له نهاية، كنت أتوقع الرصاصة بكل ثانية وأفكر كيف ستصل جثتي الى أهلي، ومن سيتمكن من سحبي من هذا المكان؟ كنت أظن إنني سأتعفن دون دفن، لكن أكثر ما كنت أفكر فيه من الذي سيساعد محمد على الفرار بعد موتي؟”.

من إحدى النوافذ المطلة على الشارع رأت مجنداً مسلحاً أرشدها الى أحد الأبواب وحين دخلت قال لها: «هل جننت حتى تأتي الى هنا؟»، وأردف أن عليها أن ترى الضابط المسؤول حتى تتمكن من رؤية ابنها.

أين ابني؟ سؤالها الوحيد الذي كانت تسأله لكل من تراه، بادرها الضابط بطمأنتها والسماح لها برؤيته، لم يصدق ابنها أن أمه استطاعت الوصول اليه في هذا الجحيم، وحين اختلت به أعطته هاتف به شريحة، ومبلغ مالي، وأخبرته أن هناك مجموعة من الجيش الحر ستنتظره في الجهة المقابلة للشارع، مشجعة إياه أن كل ما عليه فعله أن تخبرهم بساعة خروجه حتى يؤمنوا هروبه.

استطاعت الأم بحدسها أن تلحظ نظرة الشك في عيون الجميع نحو زيارتها وبالغاية منها، كما لاحظت عدم الثقة بابنها من قبل زملائه وأسر ابنها لها: “لقد طلبوا مني أن أطلق النار على المدنيين لكنني لم أفعل لذا قاموا بسجني جراء ذلك وهم يشكون بي ويراقبونني دائما”.

وقبل أن تغادر حاولت أن تقنع الضابط بطلب إذن لابنها لمغادرة الثكنة ولو ليوم على أمل أن تجنبه المخاطرة لكنه رفض.

عادت، لم تجد الشابان لكنها قدرت أنها تأخرت بالعودة وبعد وصولها الى البيت شعرت ببعض الارتياح لكن المهمة لم تنتهي بعد.

بعد اتصالين مع ابنها وترتيب هروبه انقطع الاتصال به، أكلتها الظنون، هل أمسكوا به؟، هل سمعوا حديثه على الهاتف؟، هل يمكن أن أكون قد تسببت بمقتله حين شجعته على الهرب؟، لم تستطع النوم أو الأكل طيلة أيام واهتدت الى فكرة أن تتصل بأحد رفاقه هناك، وحين تمكنت من الحديث مع ابنها جاءتها كلماته متعبة ومحبطة:

“لقد ضاع هاتفي، لمَ تتصلين بي؟ لن أستطيع الهرب، وسأقتل رفاقي ثم سأقتل نفسي يا أمي.. ليس من حل أخر”.

رغم ما بدا من كلمات ابنها وصوته من إحباط ويأس، إلا أنها تنفست الصعداء، فهو ما يزال حي يرزق، وما زال بإمكانه الهرب، شدت من همته ووعدته بزيارة ثانية قريبا.

مرة أخرى تستعد للرحلة، لكن هذه المرة تعلمت من تجربتها الأولى، وأخبرت أختها بأنها قد لا تعود، وأوصتها في حال عدم عودتها ببعض الوصايا.

رحلة العذاب نفسها أعادتها.. حين نظر ابنها إليها هذه المرة أدار وجهه ليداري بؤسه ودموعه وقلة حيلته، قالت له: “اسمع يا بني غدا سينتظرونك في الساعة 12 ليلاً عند طرف الشارع، عليك أن تهرب.. اركض فقط وتوكل على الله”.

في ساعة متأخرة من ذلك اليوم، وبعد ساعات الانتظار، لم تصدق ما سمعته على الهاتف: “محمد صار عنا” طلبت مكالمته حتى تتأكد، حين كلمها لم تستطع أن تمنع دموعها التي فاضت فرحاً، أخبرت الجميع أن ابنها عاد إليها أخيراً، وأنه لم يخنْ أخاه، في اليوم التالي أوصل شابين من الجيش الحر محمد الى أمه.

التحق محمد بإحدى مجموعات الجيش الحر، وهو يقوم بنوبة حراسة أثناء كتابة هذه السطور، فيما تزال أم الطاهر تقوم كعادتها بزيارة زوجات المعتقلين وأمهاتهم، لتبادل بعض المعلومات عن محامين يقال أنهم قادرين على إخراج المعتقلين والاتصال بهم، معظمهم من المحتالين الذين نصبوا بمبالغ مالية كبيرة عليها، وما تزال تحاول الوصول إلى كل معتقل أفرج عنه، لتسأله عن ابنها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*