ورق السجائر الذي تحدّى زبائنه أن يجدوا أفضل منه

Capture

بالرغم من جودة البضائع السورية التي حققت العالمية، إلا أن الصناعة والتجارة في سوريا لم تملك أفضل الطرق التسويقية، حتى بداية القرن الجديد. ولم يُعرف عن الإعلانات السورية يوماً سوى أنّها من أسوأ الإعلانات وأقلّها إقناعاً. لذا لا بد أن تلفت نظرك رسالة على منتج تخاطبك وتقول لك: “إذا وجدت منتجاً أفضل منا، سنعطيك ألف ليرة سورية”.

كلا، هذا الكلام ليس في عام 2016، حيث الألف ليرة تعادل دولارين، إنما في ستينات القرن العشرين، حيث الألف ليرة كانت تعادل نصف كيلو من الذهب تقريباً (ما يقارب 10 ملايين ليرة على سعر الصرف الحالي). والمنتج هو ورق الشام الذي أطلقه الصناعيّان الدمشقيَّان، صبحي وصلاح شربجي.

وركّز الصناعيان الشربجي على العاطفة بالدرجة الأولى في الترويج لمنتجهما “ورق الشام” منذ الستينات، وهو عبارة عن ورق للف السجائر لا يزال منتشراً حتى اليوم، فقبل انتشار السجائر الجاهزة، لجأ المدخّنون إلى لف التبغ بأنفسهم في قطع ورقٍ صغيرة، وعرف أجدادنا من أنواع ورق اللف، ورق “الكف الأحمر”، و”الحمام”، و”الطاووس”، و”قطر الندى”، و”الأميركاني المشرشر”، و”أبو الشامات”، و”ورق الشام”. ويفضل المدخنون “اللف” لأنه يقلل من المواد السامة التي تضاف للسيجارة في المعامل.

اتّخذ “ورق الشام”، الذي جعل من عمّان وبيروت مقرّين لمعامله، عبارة “فليحيى الوطن” شعاراً له، وعندما تفتح ظرف الأوراق، تجد العبارة التالية مكتوبةً بخطٍ عربيٍّ جميل على ظهر الورقة: “إليك أيّها العربي الصميم إليك أيها الحر النبيل ورق الشام الممتاز على سائر الماركات وهو صاحب التاج المرصّع بالنسبة لنظافته ونقاوته من كل غش بعد جهود خمس سنين توفقنا لأحسن ورق مخفّف لأضرار الدخان وسميناه بالشام تيمّناً بعروس بلاد العرب فيجب على من يحب أن يخدم وطنه وصحته أن يستعمل ورق الشام”، مع توقيع صبحي وصلاح شربجي أسفل ذلك، ثمّ عبارة: “جائزة ألف ليرة لمن يثبت ورق سجائر أطيب من ورق الشام”. وتبع ذلك أيضاً: “يا بني الأوطان جمعاً، ورق الشام خذوه، فهو صحي لذيذ، جربوه تعرفوه، ومن الغش خلي، فاشتروه واشربوه”.

ورق-الشام-3-447x237

ونلاحظ استخدام عدة أساليب إعلانية في هذا الإعلان البسيط، وهي الشعار اللافت للانتباه، وصفات وميزات السلعة، ومقارنتها بسلع منافسة، والتكرار، وعرض جائزة كانت تعد قيّمة جداً خلال الستينات، لمن يجد أن الكلام المذكور في الإعلان غير صحيح. كلّما فتح المدخّن ظرف الأوراق، قرأ المكتوب خلفه على الأقل لمرة في اليوم، وتكرار الرسالة يرسّخها في العقل الباطن، وسرعان ما يقتنع بها القارئ دون أن ينتبه.

يقول الشاب السوري، مختار إ.: “منذ حوالي عشرين عاماً، أرسلني والدي لأشتري له ورق الشام، إلا أنني لم أجده لدى البائع، فاشتريت ورق من ماركة أخرى بدلاً عنه. وعندما جئت به إلى والدي رفضه، وأخبرني أنّ ورق الشام ألذّ نوع ولا مثيل له، وعندما حاولت إقناعه بتجريب الورق الذي أحضرته لأنّه لم يجرّب يوماً أيّ نوعٍ آخر، قال لي لا أريد أن أجرّب فأنا أعلم أن ورق الشام هو الأفضل”. 

بناء الأوطان

وخلال تلك الفترة، كان العرب، الذين هم الجمهور المستهدف لمنتج “ورق الشام”، لازالوا متأثرين بفرحة جلاء الاستعمار الأجنبي عن أراضيهم، ومعتزّين بقوميّتهم العربية، وكان هناك توجّهٌ ملحوظ نحو الفخر والتمسُّك بالعروبة، لاسيّما أيام الجمهورية العربية المتحدة (الوحدة السورية المصرية التي أُعلنت عام 1958 وانتهت عام 1961)، ورئيسها جمال عبدالناصر، الذي أثّر في نفوس الكثير من العرب. ونجد في الإعلان تركيزاً واضحاً على استجداء عواطف الجمهور من ناحية الوطنيّة والعروبة، لدرجة ربطهم شراء هذا المنتج العربي، “ورق الشام”، بخدمة الوطن، كما أوحى للقارئ بأنّ هذا المنتج مصمّم خصيصاً للعروبيين الأصيلين، ما يشعرهم بالفخر والتميُّز عند استخدامه. 

ولا ندري ما إذا كان فعلاً ألذّ ورقٍ مطروحٍ في الأسواق حينها، إذ لا تزال الرسالة ذاتها تُطبع على الورق حتى اليوم وكأنها إرث، لكن قوّة الإعلان أقنعت المستهلكين أنه لا داعي لإضاعة الجهد والمال في تجريب ورقٍ آخر، وذلك برهانهم على مبلغ ألف ليرة، والذي كان مبلغاً مرتفعاً نسبياً خلال الستينات، وبالتالي، تغلّب “ورق الشام” على منافسيه عبر إعلانه القوي خلال تلك الفترة.

الخمار الأسود وفورد

هل تساءلت يوماً ما قصة القصيدة “قُلْ للمَليحَةِ في الخِمارِ الأسودِ”؟ جاء تاجرٌ من أهل العراق إلى المدينة المنورة، وكان من بين بضاعته خُمُرٌ عراقية، باع منها جميع الألوان ماعدا اللون الأسود لأنّه لم يكن مرغوباً. وبينما هو يندب حظه على بضاعته الكاسدة، التقى هذا التاجر في المدينة صديقاً له، وهو شاعرٌ اسمه الدارمي، اشتُهِرَ بالتغزل بالنساء الجميلات، لكنه ترك ذلك وأصبح متنقّلاً بين مكة والمدينة للعبادة. وشكا التاجر للشاعر ما حدث معه، فنظم الدارمي بيتين من الشعر وبدأ يرددهما في السوق:

قُلْ للمَليحَةِ في الخِمارِ الأسودِ ماذا فَعَلتِ بناسكٍ مُتَعبِّدِ
قَد كان شَمَّرَ للصلاةِ إزارَهُ حَتى قَعَدتِ لَه بِبابِ المَسجدِ

فشاع في المدينة أنّ الدارمي رجع عن تنسّكه وزهده، وعشق صاحبة الخمار الأسود، فأقبلت الكثير من نساء المدينة على شراء خمارٍ أسود من التاجر حتى نفدت جميعها.

يغفل الكثيرون عن دور الإعلان في التأثير على الرغبة الشرائية لدى الناس، وشعورهم بالحاجة لبضائع ربّما ليسوا بحاجةٍ إليها بالفعل. ويقول مؤسس “شركة فورد لصناعة السيارات”، هنري فورد: “الشخص الذي يتوقف عن استخدام الإعلان ليوفّر المال، هو كالشخص الذي يوقف الساعة ليوفّر الوقت”. ويمكن للمنتج أن يطغى على منافسيه بفضل قوّة إعلانه، ومدى تأثيره في العقل الباطن، لاسيّما عند طرح رسالةٍ للجمهور إمَّا بطريقةٍ واقعية أو بطريقة مثيرة للعاطفة.

جيل الألفية وورق الشام

أمّا اليوم، مع انفتاح الأسواق أكثر وتجربة الجمهور للمنتجات الأجنبية، وتعرُّضهم لإعلانات أكثر وأقوى وبشكلٍ مستمر، توجّهوا لشراء أوراق السجائر الأجنبية. وتقول هبة ن.: “الكثير من أصدقائي يفضّلون لف سجائرهم بأنفسهم، بحيث يعلمون أنّهم يضعون التبغ النقي داخل الورق بدل استخدام السجائر الجاهزة المحتوية على الرصاص والمواد الكيميائية الأخرى، إلا أنهم لا يستخدمون ورق الشام، ويؤكّدون أنه رديء وأنّ الأصناف الأجنبيّة أفضل بكثير”.

ويذكر مختار أنّه لطالما تساءل في صغره حول رهان “ورق الشام” على ألف ليرة، ويقول: “كنت أقول في نفسي، ماذا لو وجدت ألذ من ورق الشام؟ كيف أثبت ذلك؟ وكيف أخبر المُصَنّعين بذلك؟ وكيف أحصل منهم على الألف ليرة؟” ولاشكّ أنه لم يكن الوحيد الذي فكّر بذلك، لكن العبارة توحي للمستهلك أنّه يستحيل عليه إيجاد ورقٍ أفضل من “ورق الشام”. 

يخالفهما الرأي ماهر م. الذي يؤكد أنه يعرف ورق الشام منذ الستينات، وهو “ماركة ذات مكانة تاريخية لأجيال من المدخنين في سوريا ودول بلاد الشام”.

ويشير موزّع الدخان في سوق باب سريجة الدمشقي، غسان ش.، إلى أنّ “ورق الشام” يُعَد اليوم من أرخص الأنواع التي يبيعها والأسوأ طعماً، إلا أن كثيرين ممن يفضّلون لف سجائرهم بأنفسهم يُقبلون على شرائه لرخص ثمنه، إذ لا يتجاوز ثمن الظرف منه 50 ليرة سورية في معظم المحال التي تبيعه. 

كما بيّن المواطن أحمد س. أنه يذكر جيّداً كيف كان والده خلال الستينات يرفض استخدام أيّ نوعٍ من أوراق لف السجائر ما عدا “ورق الشام”، قائلاً: “عندما كبرت، جرّبته، ووجدت أنّ طعمه سيّء جداً، ولا أفهم تعلّق والدي به، إلا أنه اليوم من أرخص الأنواع، ويناسب ذوي الدخل المحدود ممن لا يفضّلون السجائر الجاهزة”. 

ورغم أن الكثيرين من مستخدمي “ورق الشام” في يومنا هذا أكّدوا أنه سيّء الطعم، إلا أنّ هذا لا ينفي كون المنتجين قدّموا منذ ما يناهز أربعين عاماً إعلاناً لم يقدّمه أحدٌ من منافسيهم ولم تتقنه الأسواق العربية حينها، وبذلك تفوّقوا على جميع منافسيهم خلال ستينات القرن الماضي، ووصل “ورق الشام” تقريباً إلى جميع أنحاء البلاد العربية.

المصدر: الاقتصادي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*