موقف المدني في سوريا

11138655_1589138271343626_4187948248285472423_n

مما يغلب على الطبيعة البشرية في كينونتها وآلية تفكيرها أنه حين تريد أن تبدي رأياً في موضوع ما, أو أن تتخذ موقفاً تجاه أي حدث يصادفك ويتطلب منك الخروج من دائرة الصمت, فإن ذلك يحتاج إلى الكثير من العوامل التي تمكنك من تأطيررأيك بالموضوعية ومنحه صفة المنطقية.
فهذا الموقف أو الرأي لابد أن لا يكون محاصراً بأسباب من الخوف و القلق والتوتر, وكذلك أن لا يكون دافعه المنفعة التي من الممكن أن تتبلور فيما يسمى التحيز إلى غريزة البقاء
حيث يكون الفرد ضمن خطر يهدد حياته وحياة الكثيرين ممن هم حوله مما يجعل هاجسه المهمين الحفاظ على الوجود, وهذا ما يجرد موقفه من الموضوعية والمنطقية.
وعموماً يتجلى ذلك في المواقف التي يتخذها الإنسان الغارق في بؤرة الحرب.فتكون ردة فعله مجسدة لموقف مدني تحاصره حرب لا يشارك فيها غير أنه يعاني من نتائجها,
وهو ما يختلف عن مواقف المنخرطين في النزاع المسلح أو موقف المؤيدين والمعارضين, لذا ليس بوسعنا إدراج موقفه ضمن أيديولوجيا معينة قد تدفعه إلى التعصب تجاه أفكار تؤيد أو تعارض, فتخضع لحجج المنطق والتي تساعد صاحبها في إقناع الطرف الآخر بصواب رأيه أو تقنع الطرف الثالث الذي يحكم على الصراع بين الطرفين,
في حين يبقى موقف الفرد المدني متذبذباً نابعاً من خوف متفاقم يحكمه التشتت اللامنطقي.
ومثل هذه البديهيات المتعارف عليها تغيب اليوم عن إدراك الوسط الفكري السوري سواء أكان في الداخل أم في الخارج,
ففي الوقت الذي تغلب فيه الموضوعية على مواقف السوريين في الخارج وهي موضوعية تنهض على مشهدية واضحة يمكن اعتبارها ثلاثية الأبعاد أية رؤية شاملة تخضع للمنطق المجرد من عوامل الخوف وقلق المصير الوجودي في تحديد الأسباب التي أدت إلى النتائج الدموية التي آلت إليها الحرب في سوريا,
نجد أن مواقف من هم في الداخل تتأسس على ضرورة الحفاظ على بقائهم الآني, فتغيب عن مواقفهم المشهدية الكاملة للأحداث, وتتجرد من منطق أن غيرهم أيضاً في أماكن أخرى من سوريا يتعرضون لموت شبيه. ربما لأنهم عاجزون عن التخلص من هذا الخوف, فمن هو خائف ومحاصر بأسباب الموت اليومي العبثي لا يمكنه أن ينجد الآخر, بل في كثير من الأحيان قد يرى في هذا الآخر سبباً لموته.
هي جدلية الموت في الحرب التي تحكم هذه المواقف. فنادراً ما تجد مواقفاً موضوعية لدى الأطراف المدنية المتواجدة سواء في مناطق النظام أم في مناطق المعارضة باتجاه بعضهم البعض أو باتجاه ما يصيبهم من موت ودمار.
والمفجع أن كلٍّ من هذين الطرفين المدنيين ليس بوسعه اتخاذ قرار الرحيل تحت وطأة الخوف من التشرد والنزوح واللجوء فتبقى غريزة البقاء الآنية مهيمنة على آلية التفكيرالتي تبلور مواقفه.
وفي بقائه الجبري هذا تغيب مفاهيم الثورة الأخلاقية في تطور الأحداث وتضمحل منطقية المواقف الإنسانية العليا حيث بات يصنفون لدى كلٍّ من الطرفين تحت اسم »البيئة الحاضنة», ويتم استباحت حياته وفق هذا التصنيف من قبل الذين يملكون قرار استخدام السلاح.
يبقى من هو في الخارج القادر الوحيد على رؤية الأمور بموضوعية كما ذكرنا سابقاً, فموقفه نابع عن اطمئنان نفسي بشكل أو بآخر يعود إلى سبات غريزة البقاء لديه, غير أنه من المؤلم أن تجده يطالب من هم في الداخل باتخاذ مواقف موضوعية لن توقف الحرب لكنها ضرورية في إنصاف الواقع السوري الدموي.
في حين يعاني هذا الأخير من عجز متفاقم وإرهاق قد تكدس يوماً بعد يوم على عاتقه ليبقى عالقاً في دوامة الموت اللامتناهية, يتخبط في مواقفه النابعة من خوفه, فتجده تائهاً لا يستطيع التمييز بين عدوه و صديقه, ولا يمتلك قدرة الإدراك التي توضح له إن كان أداة لأصحاب القرار أو ذريعة لهم. لم يعد يهمه سوى أن يبقى على قيد الحياة أطول فترة ممكنة.

مي الفارس