الخروج من حفرة “الدراما” الطاقة الكامنة في “حرائق دمشق”

113012_2010_02_22_12_26_05

أطراف الصراع عند «زكريا تامر»* واضحة، فالسلطة القمعيّة بأشكالها السياسيّة أو الدينيّة أو الجنسيّة طرف، والإنسان الصغير الواقع تحت تأثير هذه السلطة التي تعمل على سحقه هو الطرف الآخر في مجمل قصص «تامر» وإن تغيّرت الألوان؛ من هنا تبرز «الدراما» في مجموعات مثل «دمشق الحرائق»** باعتبارها صراع وتلوّن.
تضعنا قصّة «الليل» في المشهد المسرحيّ فوراً، إذ يتسلّل اللصّ وبيده المصباح فنرى غرفة تنام فيها امرأة وطفلها. يفتّش في الأغراض، نكتشف الفقر، يتصعّد الموقف حين ينزعج اللصّ فيسعل وتستيقظ المرأة فيُطبق فمها بكفّ ويستلّ بالأخرى سكيناً.
هنا يبدأ الحوار بجملة يقولها اللصّ: «إن كنت تريدين أن تموتي فهيّا اصرخي». تجيب المرأة الفزعة بالبكاء، ونصل لذروة دراميّة بتكثيف فريد برع به «تامر» كما في مختلف قصصه، مثل «امرأة وحيدة» من المجموعة عينها، حيث تجلس «عزيزة» قبالة «الشيخ سعيد» والجوّ مليء بالبخور، يسأل الشيخ المرأة: «إذن تريدين أن يرجع إليك زوجك؟» هكذا يلج «تامر» المشكلة ويشعل فتيل «الدراما» منذ اللحظة الأولى في مشهد يصل إلى اغتصاب عزيزة من قبل «الجان» مروراً بسلبها الليرات العشر «ثمناً للبخور» ولإرضاء «الجان اللطاف»!. يرتدّ ذهن المرأة عبر تداعيات إلى صور مفاصل حياتها ليتّصل بخطّ انتهاك جسدها وإنسانيّتها في مجتمع يستولي عليه دِين «الشيخ سعيد» وشرف الفتاة ليلة العرس، في مونتاج سينمائيّ داخل المشهد.
بالعودة إلى اللصّ الذي يتحوّل في قصّة «الليل» إلى رجل مكبوت جنسيّاً، لحظة ترضع الأمّ طفلها لإسكاته، وينسى الخمسمائة ليرة التي أتى لسرقتها، ثمّ يتذكّرها عندما يراجع سبب عدم قدرته على الزواج، ويحاول انتهاز الموقف ليعوّض جسديّاً، فيستلقي بجانبها ويلتصق بها، ينشأ صراع يبدو فيه اللصّ الفقير متعباً، وتتداعى الصور في رأسه: أخته التي تبكي.. أمّه المريضة.. الفتاة التي أحبّها.. والمانع أي: الفقر مرّة أخرى؛ ليتكوّن الشريط الذاتيّ بمونتاج «تامر» مستفيداً من أهمّ منجز للدراما الحديثة، وهو الصراع الداخليّ، الذي يتمثّل بصراع الشخصيّة مع ذاتها، بإضافته إلى التفكير السينمائيّ.
في قصّة «الشجرة الخضراء» من مجموعة «دمشق الحرائق» أيضاً، يضع «تامر» منذ اللحظة الأولى طفلة أمام صخرة، تبكي الطفلة لتنفجر الصخرة عن طفل شريك في لعبة المحاكاة (الجذر العميق للتمثيل)، وفي انتقال مُقترح من الطفلة إلى «لعب» شخصيّة الملكة، نشهد الحرب بلقطات مختزلة عن الهجوم والأسْر، وننتقل إلى شحّاذ ثمّ لصّ فقتيل فوردة؛ عبر صورة عالية الكثافة والسرعة الإيقاعيّة. تليه هدأة كنقيض: السماء الزرقاء، الغيوم..، لكن سرعان ما يُكسر الصمت بأصوات الأحذية العسكريّة والسلاح، وفي ذروة دراميّة يشاهد الطفلان إعدام إنسان يكبّل على شجرتهم الخضراء التي اختاروها خلفيّة للعبة المحاكاة، ونفيق من الصدمة الواقعيّة إلى اللعبة، بعودة المشهد إلى طفلين تحوّلا معاً إلى صخرة.
الفنون البصريّة كالمسرح والسينما، تجد طاقة كامنة لا تنضب في أعمال «زكريا تامر» القصصيّة خصوصاً، فيمكن بناء المشهد بدءاً من القصّة، باعتبار الظروف المفترضة والشخصيّة بالتفاهم مع الممثّل ليقوم بالفعل.
ويدوَّن النصّ كحوار – إن وجد – من خلال التدريبات المسرحيّة، كمشهد (إتيود). هذه الطريق تحتاج إلى الممثّل المفكّر المبدع، المضادّ للقوالب والنمط.
سينمائيّاً، ربّما، تُخرِج قصص «تامر» السيناريو السوريّ من حفر وقع فيها مثل السير الذاتيّة للمخرجين، أو أفلام «البيئة» الشكليّة والكاذبة والخاضعة لـ «توجيهات القيادة الثقافيّة والإعلاميّة». وهنا نأتي إلى «الدراما الرمضانيّة السوريّة» كآفة أصابت المجتمع، يرى الكثيرون أنّها ما تزال تجرّ وراءها القوالب السابقة، رغم أنّ إنتاج بعضها تمّ بحرّيّة، وكانت نحو ثلاثين عملاً تفاوتت – طبعاً – فيما قدّمته على صعيدي الشكل والمضمون، فبعضها أمسى مجرّد ذكر اسمه مثاراً للسخرية، مثل: «باب الحارة 7»، ولم يعد باستطاعة المتفرّج أن يتابعه، لاستخفاف من وراء العمل بعقل المشاهد تحت مسمّى (دراما بيئيّة شاميّة) بينما يقول بعض من تابعها: إنّها «حجبت سورية وزيّفت دمشق» وهي تمرّر مجموعة سذاجات، أو تبرّر مواقف حسب طلب (توجيهات) القيادة، وهناك متبرّعون يفهمون ما تريده الأجهزة ويفصّلون حكايات على المقاس قبل أن يُطلب منهم ذلك.
لكنّ القرارات الصادرة بتنفيذ هكذا أعمال تشبه الإصرار على استمرار معمل أحذية القطاع العامّ على الإنتاج ورمي ما ينتج في صالات المؤسّسات الاستهلاكيّة طعماً للغبار وترويجاً للفساد.
فمتى سوف ننهض من جديد، ونطفئ حرائق دمشق؟
هامش:
*زكريا تامر أديب سوريّ وصحفيّ وكاتب قصص قصيرة، ولد بدمشق عام 1931، واضطرّ إلى ترك الدراسة عام 1944. بدأ حياته حدّاداً في معمل ثمّ أصبح يكتب القصّة القصيرة والخاطرة الهجائيّة الساخرة منذ عام 1958، والقصّة الموجّهة إلى الأطفال منذ عام 1968. يقيم في بريطانيا منذ عام 1981. ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات. من أعماله: النمور في اليوم العاشر (قصص)، دار رياض الريّس للكتب والنشر، الطبعة الرابعة، 2000، بيروت.
**تامر، زكريّا، دمشق الحرائق، رياض الريّس للكتب والنشر، 2009

بشار فستق