أغنية لداعور سراقب (عفوية فنان ونظافة ثائر)

8

زيتون – أسعد شلاش

– قتلوه قتلوه – متى؟ – ومن هم؟
– ومن أبلغك الخبر؟
– أما أحسست بتثاقل الهواء؟
– الكثيرون في الشارع يتلعثمون بذلك، انظر حولك ألا ترى الشارع صامتا حزينا كأن الطير على رؤوس الجميع.
– نعم تنبهت أن خطبا جللا غشى الناس، لكن لم أتوقع ما قلته ولا أخفيك أني وإلى الآن أشك فيما تقول. – اصغ لأصوات الشارع مات.. قتلوه
– لالا.. لايمكن استحالة أن يحدث، أو لا أريد أن أصدق.
– توقف قليلاً أصغ جيداً 
صوت هادئ رصين، وقع على مقام الحجاز الحزين، وقطع الشك باليقين وأعلن من مئذنة الجامع الكبير في سراقب (المتوفى إلى رحمته تعالى الشهيد أحمد ممدوح العيسى الملقب بالداعور)
انبرى من الجموع صوت قوي أنيق وترنم على شجن وشجون البيات (يا أهل النخوة يا رجال الثورة يا شهدا الثورة يا شرفاء الثورة قوموا حيوا بطلكم ما مات ما مات ما مات، الداعور ما مات) كل من سمعه ردد وراءه اللازمة.
عزفت الموسيقى، توقفت، تابع المغني على ذات المقام (بشجاعة ومن دون تنظير بدل نغماته العفوية التي كان ينثرها بحب كبير زخات رصاص على الحرامية وعسكر الغازين طلقات تبعد طيران الحقد عن ناس آمنين) لم يكن الداعور مثقفا ولا تعنيه الثقافة، كان الأكبر لوالده دونه صغير واحد لأسرة متواضعة كما جل عائلات بلده، شاب خجول جدا قليل الكلام كثير العمل والحركة، هجر المدرسة في وقت مبكر، تعلم العزف على آلة الأورغ وكان ينثر نغماته بعفوية مع مطربين شعبيين في ليالي خريف سراقب حيث موسم أعراسها وأفراحها، التحق بالثورة منذ أولى أيامها، تعانق ومحمد حاف عناق الثوار وتعاهدا على متابعة المشوار.
هجر أورغه واستبدله بطبل أراد أن يجوب شوارع بلده ويكون مع رفاقه، يحس بفرحهم ويستشعر الأمن والأمان معهم.
يتقدم جموع المتظاهرين وعلى وقع طبله ينشد حاف ليعيد بعده المتظاهرون.
كتب على طبله ما عزم عليه في عقله (الموت ولا المذلة) عرفه كل أهالي سراقب بقارع الطبل عندما بدأت جرذان عسكر الطغيان تتسل إلى بلده ليلا لتختطف أصدقاءه، حمل بندقيته وسهر على مداخلها ليحول دون دخولهم، أطلق رصاصه عليهم في أكثر من مرة، قاتل في كل المعارك التي تصدى فيها ثوار سراقب لعسكر الطغيان من اقتحامات الجيش للمدينة والتصدي للأرتال المتوجهة إلى حلب وتحرير كل الحواجز التي تحاصر سراقب ونجا منها جميعها، ما زلت أذكر حال والدته عندما يكون في معركة ما، كيف تبدو شاردة ومنفصلة عن كل ما حولها وكثيراً ما كانت تنتصب واقفة وتنظر إلى جهة المعركة وهي متأكدة أنها لن ترى شيئا فالمسافة بعيدة، كانت لا تستطيع أن تستقر في مكان، تلح على والده لتقطع مسافات طويلة لتراه وتطمئن عليه، ثم تعود وما إن تجلس حتى تعاود الكرة بالذهاب إلى الطريق لتراه، كان هذا دأبها.
أبداً بكى الداعور بمرارة صديق ثورته حاف وعبر بعفويته (كسر ظهري اسشهاد صديقي حاف) هجر الطبل ولصق صورة صديقه على صدره يجوب الطرقات ممتطيا دراجته النارية ومتأبطا (رشاشه) على كتفه وحارساً للطريق بعد تزايد اللصوص وقطاع الطرق الذين راحوا يستغلون عبور السيارات على طريق «حلب – دمشق» ليقومون بسرقتها، اتخذ على عاتقه السهر على حماية الطريق ومنع أي عملية سرقة وتشليح، يمضي ليله يجوب الطرقات غير آبه بالبرد القارس، يتبادل إطلاق النار عدة مرات مع اللصوص وعندما كان يستشعر أن لا حيلة لديه عليهم يعمد على إطلاق النار على حاجز العسكري في الجهة المقابلة والتي يسمونها أهالي سراقب بحاجز (معمل الزيت) فيبدأ عناصر الحاجز بإطلاق النار جهة اللصوص وهكذا يهرب اللصوص.
كان يردد دائما نريدها ثورة نظيفة أخلاق الثوار ليست كأخلاق الشبيحه.
شكا لي والده -قبل أن يتوفى بمرض القلب حزناً عليه- أنه كان يرهقه بمصروفه المادي فهو يرفض أن يتقاضى من أية جهة كانت.
إلتحق الداعور بجبهة ثوار سراقب وتولى بالإضافة إلى حراسة الطريق إبعاد طائرات الغدر عن سماء سراقب، يطلق نيرانه من مضاد للطائرات، ثبته على سيارة (جيب مكشوفة) حاصرت الطائرة سيارته وأحرقتها لكنه كان قد ترجل منها.
رددت الجوقة اللازمة (ما مات ما مات ما مات الداعور ما مات).
عزفت الموسيقى حزن الحجاز، وتابع المغني (بشجاعة لبى نداء صحابوا المغدورين كانوا في المرصاد شبيحة مأجورين.. قوس قزح دمه على جسمه حملوه صحابو لأمه).
سمع الداعور على القبضة استغاثة رفاقه الثوار وهم يطلبون المؤازرة بعد أن غدرت بهم مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق من شبيحة النظام في قرية من قرى ريف سراقب الشرقي، انتفض ككل الأبطال، ألحت عليه أخته أن يتناول طعام الغداء الذي حضرته له وخاصة أنه تحمل عناء السفر إلى سرمين مكان إقامتها، لكن نخوته حالت دون ذلك، استقل سيارته ولم يلتفت إليها وهي تتوسله أن يتناول طعامه، أمر صاحبه أن يقود السيارة بما يستطيع من السرعة ووقف هو خلف سلاحه مستعدا لكل طارئ، وما إن دخل القرية التي غدر بها الشبيحة وقطاع الطرق بأصدقائه الثوار، حتى استقرت طلقة قناص غادرة في صدره تابع المغني (قوس قزح دمه على جسمه حملوه صحابو لأمه) جمدت عيون الأم في محاجرها، خانتها دموعها لم تستطع الكلام أومأت بيدها، صمت المغني، وضعت يدها على فمها، زغردت زغردت وأنشدت (هاها العريس اليوم أحمدنا هاها وقبلوا زفينا حاف وشيخ الثورة أسعد والبطل أمجدنا هاها وكل ثوارنا أبطال ولسع في كتير متلون عنا)، رددت الجوقة (ما مات ما مات ما مات الداعور ما مات أحمد ما مات أحمد ما مات).
قيل بعدها أن أهالي سراقب ظلوا يسمعون صوت طبله زمنا طويلا.
كتب خالد شلاش وغنت فراشة الشهداء طفلته إنانا بصوتها الدافئ للداعور (سامحنا يلي كنت تنطر ليالينا ونًّام دفيانين وتبرد ياغالينا يا حارس الطرقات يا حارس الطرقات….) وبقي الداعور في مخيال أهالي سراقب وما حولها رمزا لنظافة الثورة ونقائها.
الرحمة لروحه في الذكرى الثالثة لاستشهاده