العنف والصورة

photo709857605135215307

عانيت قبل اندلاع الثورة، من مشكلة عدم تقبلي للعنف في السينما والتلفزيون، وكنت أعتبر أن هذا النفور هو عيب أعاني منه فنيًا لأنني إن كنت لا أستطيع رؤية مشهد عنيف، فكيف أستطيع تنفيذ مشهد عنف إن تطلب عملي كمخرجة ذلك؟
كانت الشاشات التلفزيونية وما زالت، تطفح بالمشاهد العنيفة، كما أغرقتنا السينما التجارية بأفلام الأكشن، التي تموت فيها الشخصيات الثانوية بالجملة، فيما ينجو الأبطال، الذين يرتكبون في سبيل نجاتهم جرائم مريعة، تقدم على أنها شديدة البساطة.
 
كان النقاش حول العنف في السينما، حاميًا لسنوات، وقد أطلق المخرج أوليفر ستون مصطلح العنف الفانتازي، على المشاهد التي يصل فيها بطل إلى مكان الأشرار، ويفتح عليهم النار فيقتلهم جميعًا. لأن سهولة القتل في هذه المشاهد توحي بأن فعل القتل فعل بسيط وسهل وبلا عواقب. فيما عانى المخرج “ستون” نفسه لسنوات طويلة، مما اضطر لارتكابه في حرب فيتنام التي عاشها كمجند، وعبر عن قسوة القتل في مجموعة من الأفلام التي تحدث فيها عن تجربته تلك.
 
وهذا يقودنا إلى نقاش آخر، بعد فيلم المخرج نفسه “قتلة بالفطرة”، الذي ركز على العنف بوصفه هوسًا عامًا ولا سيما لوسائل الإعلام، والذي فتح الباب على مصراعيه أمام الجدل الذي يحمّل وسائل الإعلام مسؤولية انتشار ثقافة العنف في المجتمعات الغربية. وكنت أنا من مناصري وقف تدفق العنف على الشاشات بكل أشكاله.
 
اندلعت الثورة السورية، وبدأت تتدفق على يوتيوب فيديوهات توثيق عمليات القتل، وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وبدأت عتبة تقبل العنف لدي ترتفع، لأنني كنت أشعر أن من حق الضحايا علينا، أن نحفظ حكاياتهم لنعيد إنتاجها لاحقًا. وكان الفيديو الذي انتشر في الأشهر الأولى من الثورة، لجثة الطفل حمزة الخطيب التي شوهها الأمن تعذيبًا قبل قتله، لحظة تحول فارقة في قدرتنا على الاحتمال، فقد كانت الصورة تفوق قدرة العقل البشري على الاحتمال والتصور، ومع ذلك فقد شاهدناها.
 
مع تقدم سنوات الثورة، وابتكار النظام لوسيلة عقاب جماعية جديدة، تلخصت في كلمة من خمسة حروف: المجزرة، طالعتنا فيديوهات الجثث المتراكمة فوق بعضها، والممثل بها كرهًا وحقدًا، وكانت صورة من مجزرة البيضا تظهر فتاتين اختبأتا في خزانة ثم قتلتا داخلها رشًا بالرصاص، وصور الخبز المدمى من “حلفايا”، بداية جديدة لعتبة جديدة من تحمل العنف، إذ رغم أنني حين شاهدت هذه الصور، شعرت بان روحي انتشلت من بين ضلوعي، وأنني أكاد أختنق، إلا أنني شاهدتها واختزنتها، واستمرت الحياة.
ابتكر النظام البراميل المتفجرة، ففاض اليوتيوب بمقاطع انتشال الجثث والناجين من تحت الأنقاض، وكانت الفيديوهات التي ينجح فيها المنتشلون بإنقاذ طفل أو طفلة تبعث في نفوسنا الأمل، رغم قسوتها، والذعر والصراخ والذي يعم أصوات أبطالها.
 
جاءت مجزرة الكيماوي، وصور الأطفال المصفوفين في الأكفان، والطفلة التي لم تصدق أنها نجت لتزيد من قدرتنا على المشاهدة، ورغم أن الألم كان قاتلًا إلا أنه لم يقتلنا.
وظلت الصور تتوالى، ونحن نشاهد، ونتألم، وروحنا تكاد تذوي تحت وطأة ما لا يصدق، إلى أن خرجت علينا تسريبات قيصر، خمسون ألف صورة لأحد عشر ألف شهيد قتلوا تحت التعذيب في المعتقلات، وارتسمت عتبة جديدة بالنسبة لي، إذ كنت أصادف هذه الصور على صفحات الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي، ورغم أنني حاولت ألا أتمعن في أي منها، وألا أفكر في العذاب الذي كابده كل منهم، إلا أن تعليقًا كتبه أحد الأصدقاء كان كفيلًا بتحميلي ما لا طاقة لي على احتماله، إذ كتب وصفا لأم شاهدت كل الصور واحدة واحدة للتعرف على ابنها المفقود، وتوالت بعد ذلك، حكايا التعرف على الأحبة في الصور المريعة. وكان الفظيع في هذه الصور، ما تحمله لخيالك رغمًا عنك، فالصورة تختزن خلفها حكاية من الألم، لم يتعرف إليه بشر من قبل.
 
بعد كل تلك الصور، جاءت داعش، لتكمل تشوهنا بفيديوهات قطع الرؤوس المنجزة بتقنيات سينمائية، فما كانت تخبئه الصور المسربة وتتركه لخيالنا المعذب، صار هنا علنيا ومشروحا بالتفصيل، فالسجين يساق إلى مصيره مع لقطات متعددة، يوضع على الأرض ويقطع رأسه أمام عيننا، أو يحرق في قفصه مع مؤثرات بصرية وصوتية، وقد دار جدل طويل حول مصداقية هذه المقاطع إلا أنني لم أستطع حمل نفسي على تحليلها بصريًا.
 
اليوم، أجد نفسي كمخرجة، بعد أن حملت كل هذه الصور التي شكلت ذاكرتي البصرية الجديدة، أمام أسئلة عديدة، ترى كيف سنستطيع تقديم العنف في المستقبل في أعمالنا؟ هل أصبحت أتقبل المشاهد العنيفة في السينما؟ كيف سنعيد إنتاج ما يفوق قدرة الإنسان الطبيعي على الاحتمال والتصور؟ أين نرسم ذلك الخط الوهمي بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول على الشاشة؟ كيف نعرّف العنف بعد كل ما مر؟ ورغم أن هذه الأسئلة تشغلني، إلا أنني أجد نفسي عاجزة عن الإجابة عنها، كل ما أعرفه أننا شاهدنا كل ذلك ولم نمت قهرًا، مما يعني أن عتبة الاحتمال تلك التي كنت أظنها في نفسي لم تكن هي الحقيقة ولكن لعلها كانت ما أتمنى.
 
ايناس حقي – المكتب الاعلامي لقوى الثورة السورية