عندما ثار البحر

387309876

في ظهيرة يومٍ معتدل و عند إنتهاء الخطيب من إقامة صلاة الجمعة، علت الصيحات منادية «الله أكبر، الله سوريا حرية و بس», فقد عانى شعبنا من مأساة طويلة ومرعبة امتدت على مدى أربعين عاماً و نيف.
عدنا إلى منازلنا ولكننا لم نيأس وظل الأمل يعصف داخلنا منشداً أنغام الحرية، متأملين في رفاقنا في مدينة بانياس أن يكونوا قد كسروا قيود الخوف.
نعم إنه الثامن عشر من آذار، يومٌ سيجسله التاريخ في الساحل السوري، فقد إنطلقت أولى شرارات الحرية من مدينة بانياس تزغرد بهتافات «الله ،سوريا،حرية وبس»، حيث تجمع الأحرار في ساحة البلدية متجمهرين، رافضين كل قهر السينين.
كان خبر المظاهرات في بانياس كحبات البرد على القلب وما هو الا قليل من الوقت الا وجاءت البشرى الثانية «ثارت درعا» ونفضت عنها غبار الذل.
ولم يمض وقت كثير قبل أن تزف أول شهدائها لتعلن ولادة وإنطلاقة الثورة السورية وتعطي كل المدن السورية دافعاً للخروج ضد الظلم والإستبداد.
اسبوع مر اتفقنا خلاله على أن نتوزع كمجموعات كل مجموعة في مسجد لنشجع أكبر قدر من الناس المنتظرين لصوت يدعوهم للحرية.
وكان العرس..عرس حقيقي لعروس الساحل السوري، فقد خرجت الجموع الغفيرة مرددة «يا درعا حنا معاكي على الموت»، «بالروح بالدم نفديكي يا درعا»، «الله، سوريا، حرية وبس».
عشرات الآلاف من عشاق الحرية خرجوا من جامع خالد بن الوليد وجامع الرحمن وجامع المهاجرين ومسجد البازار والجامع الكبير، ليجتمعوا ويملؤوا ساحة الشيخ ضاهر ولتعلوا صيحات الحرية هاتفةً بأهازيج الثورة السورية، غاضبة على شهداء درعا الأبرار.
التقينا عند التقاء شارع القوتلي مع ساحة الشيخ ضاهر وبدأت جموع الموالين وقوى النظام الأمنية، تتوافد ليقوموا مجتمعين بإلقاء الغازات المسيلة للدموع و جلب سيارات الإطفاء -لإبعادنا بمائها- ما لبثت أن بدأت رشقات من الحجارة تنهال علينا ليقوم البعض بإعادتها لأصحابها.
اتجهت بعدها الجموع إلى ساحة «الصليبة» لتطلق عليها إسم «ساحة الحرية» ويسستمر الإعتصام، ليشهد اليوم التالي، وقائع دموية ويرتقي أول شهدائنا معلناً عن أول هتاف في سوريا نادى بإسقاط النظام.
فرع الشرطة العسكرية في اللاذقية أول من خان السوريين، وأطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ليرتقي ستة من الشهداء برصاصهم، وتبدا ثورة الفينيق الذي لايموت.
بدأت عقارب الساعة وكأنها في سباق، تتراكض لتحقق رقماً قياسياً، معلنة صباح اليوم الثاني من ثورة «البحر»، بدأ الشبان يجتمعون بعد أن عقدوا العزم، و علت الحناجر بالتكبير مرددةً «يا درعا حنا معاكي على الموت» وبدأت الجموع تحتشد, الألوف تمشي بخطى ثابتة نحو «ساحة الشيخ ضاهر».
وصلنا و بدأ رفقانا بالتصوير لتوثيق هذه الإنتفاضة الساحلية, وما هو إلا القليل من الوقت, حتى أرسل نظام الأسد «مشايخه» للتفاوض معنا، أملاً بإنهاء الأمر, و لكن بحكمة وفطنة، من بعض العقلاء، قلب السحر على الساحر ، وحمل أحد المشايخ على أكتاف المتظاهرين, ليرى نفسه مرغما على الهتاف بالحرية .
بدأ القمع من ذاك المبنى الذي لا يبعد إلا مئتان من الأمتار، بإطلاق الرصاص الحي, وسقط أول الجرحى، ثم أرتقى أول الشهداء، فالثاني و الثالث والرابع, لتسيل الدماء معلنة «إسقاط النظام»، إنهم رفاقنا كانوا بالأمس معنا، واليوم غادرونا، فهل سنحمل شعلتهم، ونتابع مسيرتهم؟
وتحت النار، ورغم الرصاص، بدأت الجموع تركض متجهة نحو رفاق الدرب، محاولةً أن تنقذ ما تبقى لهم من أنفاس.
بعد خمسينَ مترٍ من ساحة الشيخ ضاهر، كان يرقد جسد أحمد بعد أن فارق الحياة، نعم إنه حي ولكن بغير جسد, نعم أنه حاضر ولكن من غير وجود، كبقية الشهداء في ذلك اليوم.
بعد هذا اليوم الدامي، أعتمد نظام الأسد خطأ جديدا لمحاولة إسكات الأصوات الثائرة، متناسياً أن «ثورة البحر» لا تهدأ, فبدأ بإرسال أزلامه إلى الأحياء الموالية أن المتظاهرين يتربصون بهم و سيهجمون على أحيائهم من أجل أن يرتكبوا المجازر بحقهم، هدفه أن يبعد الشباب الموالين عن الانخراط بالثورة بل وأن يناصبوها العداء.

ثائر حر
يتبع…