الروائي” السياسي” عبد الله هلال.. يترجل غريباً

1

زيتون – تركي المصطفى

رغم الموت الذي يحيط بنا. ورغم النعوات اليومية التي اعتدنا بها تمجيد أصدقائنا وأبطالنا. أقف مخنوقاً وعاجزاً، أمام هذا الرحيل الكبير لصديقي أبي محمد،  صاحب الأحلام الكبيرة بثورةٍ ناجزةٍ، ووطنٍ حرٍ كريم، حيث وافته المنية في مدينة غرداية الجزائرية عن عمر ناهز السبعين عاماً بعد صراع طويل مع الغربة، لم تكن غربته طوعية ليتناسى القروح والجروح، وينتقل إلى عالم الأمان والسلام، ولم يكن في رحلة سياحيةٍ ليطوف الأرض، ويعيش في هناء ورخاء، فهناك أمورٌ  نغصت عيشته وأرقته، ولطالما أدمعت عينيه، ولنعترف أننا أحد أهم أسباب غربته، لأننا لم نكن على قدر أحلامه الكبيرة، لذلك لا نملك سوى قلوبا حزينة لفقده.

حمل ثلاثة أسماء عبدالله وابراهيم والسياسي، وعادة ما يطلقون في سراقب على كل مميز بلقب يشبهه،كع9ح

فكان لقبه  لحنكته ودرايته في معالجة المشاكل الإجتماعية، وكان أحد أبرزالوجوه الاجتماعية في عائلته وأهل بلده.

ولعائلته آل هلال مكانة مرموقة اجتماعيا وسياسيا، وهي عائلة تجمع البداوة في عراقتها والحضارة في تمدنها الراقي، كما ظهر منهم العديد من الأطباء والمهندسين والقادة في الثورة السورية كالمرحوم الشيخ أسعد هلال، وقائد جبهة ثوار سراقب محمد هلال أبو طراد.

ترعرع السياسي في خمسينيات القرن العشرين حين كانت سراقب تتقاذفها التيارات والأحزاب  السياسية المختلفة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار (بعثيون، قوميون وقوميون سوريون، شيوعيون واخوان مسلمون)وانتمى السياسي لحزب البعث، واستقال منه في ثمانينيات القرن العشرين احتجاجاً على ممارسات الأسد الأب القمعية، ليدخل أتون المعارضة السياسية ناقداً الأوضاع السائدة في عهد نظام الأسد، وفي مطلع الألفية الثالثة شهدت سورية تطورات سياسية كان أهمها ربيع دمشق، فاختار الإنضواء تحت مظلة المعارضة وعمل مع أصدقائه على توحيدها فيما عرف بـ (إعلان دمشق للتغير الوطني الديمقراطي) وانتخب عبد الله هلال ممثلاً عن ادلب في المجلس الوطني لمؤتمر اعلان دمشق، الذي عقد في دمشق أواخر العام 2007 في منزل المعارض ورجل الأعمال السوري رياض سيف في قلب العاصمة دمشق.

وظل ناشطاً معارضاً لنظام الأسد إلى حين انفجار الثورة السورية في آذار عام 2011 م، وفي أولى المظاهرات التي كانت تنطلق من جامع الزاوية، وهذا ما استذكره الدكتور أسامة الخالد وكتب على صفحته الشخصية في فايسبوك:

(الأخ الصديق إبراهيم هلال السياسي، حتى اليوم لم تجف دمعاتك فرحاً أمام جامع الزاوية، عندما باركنا لبعضنا عند أول مظاهرة في سراقب بأننا كسرنا حاجز الخوف، كنا ما يقارب الخمسين شخصا، وكانوا بالمئات مع الشبيحة، صحيح لم ولن تحضر فرحة النصر ضد طاغية العصر ولكنك بكيت سلفاً فرحاً بالنصر).

استدعي السياسي إلى التحقيق في فرع أمن الدولة، وفي مكتب التحقيق سأله المحقق ماذا تريد؟ فأجابه السياسي بصلابة:” أريد إسقاط النظام”. فذهل المحقق من الجواب، فأردف السياسي قائلاً:

“لست الوحيد الذي يطالب بهذا المطلب، إنما كل الشعب السوري الثائر يريد تحقيق ذلك لنعيش كسوريين في وطن يحفظ كرامة الجميع”.

كان الأكبر سناً بين المتظاهرين، لكنه الأكثر شباباً وصلابةً في معارضته، عندما يقبل على ساحة المظاهرة يلوح بيديه للجماهير الهائجة مبتهجاً وفخوراً بالشباب الثائر، يحضر المظاهرة اليومية ويحض” الكبار” على التظاهر .

وفي أولى حملات قوات نظام الأسد ضد ناشطي سراقب، داهمت قوات الأمن المدينة في مطلع أيار 2011 وصادرت الكثير من أوراقِ وكتبِ الناشطين ومن بينها 200 نسخة من رواية السياسي اليتيمة (البردويل) التي طبعت في بيروت في دار الفارابي بعد أن رفضت وزارة الأعلام الموافقة على طباعتها، وكانت النسخ موجودة في قبو بيت الصديق منهل باريش ليخبرنا لاحقاً أن الرواية رافقته خلال فترة الإعتقال هي وباقي المصادرات وتنقلت معه من فرع أمن الى آخر، ليخرج من الإعتقال وتبقى الرواية حبيسة الى اليوم .

 تدور أحداث رواية” البردويل” في بلدته سراقب، يسرد الروائي من خلالها الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بأسلوب أدبي يجمع فيه بلاغة الكلام مع دقة التعبيروالإصطلاح، بحيث يمكن للقارئ العادي استيعاب معنى ما يريده الكاتب من فهم فكرة الرواية، وتعالج القيم الأساسية لدى الإنسان. غائصاً في الثنائيات، حيث الصراع بين الخير والشر، والقبح والجمال، والحب والكراهية، والعدالة والاستبداد.

مع انطلاق ثورات الربيع العربي. بدأ بكتابة رواية أخرى (ساق المدينة) قرأتها مخطوطاُ مع عدد مع الأصدقاء، ويستشرف الروائي فيها وحشيةً وعنفاً، فطائراتٌ مجهولةُ تقصف المدنيين وتغرق المدينة في بحر من الدماء، وتدور أحداثها وأشخاصها أيضا في مدينته، في ذلك اليوم أعتبر الأصدقاء أنها رواية فنتازية. لكن الفنتازيا تحولت واقع مجنون الآن.

مأساة الشعب السوري وابتلائه بطغيان نظام الأسد، ومٱلات الثورة السورية وتطوراتها، والخراب الذي حل بالوطن جراء ما ارتكبه الأسد من جرائم، لم ترَ روايته  (ساق المدينة) النور، ولم تجد طريقها إلى النشر، لأنه لا يملك ثمن طباعتها، فروايته الأولى (البردويل) تبرع بعض الأقارب والاصدقاء بطباعتها.

عندما كانت تلاحقه أجهزة القمع الأسدية كغيره من ناشطي سراقب، كان يلجأ إلى الريف القريب، ويرنو بنظره إلى بلدته مشتاقاً وهو الذي قد غادرها قبل ساعات، ليعود إليها على الرغم من المخاطر، ودائما يردد: لا يمكن أن تكون هناك بلد أجمل من سراقب، وشعب بكرم أهلها، واستغربت كيف ترك السياسي عشيقته، ليعيش ويموت غريبا عنها !.

كان يمازح الأطفال في الشوارع، ويردد أمامهم: الشعب يريد .. فيجيبونه: إسقاط النظام، يحلم كالأطفال، فكلما خطب المجرم الأسد خطابا، يعلق السياسي : هذا آخر خطاب له .

كنا نسهر الليل في ضواحي سراقب ومزارعها في خيمة المحامي طراد هلال مع ثلة من المهتمين بالشأن العام أمثال المعارض محمود باريش، وأسعد شلاش والدكتور محمد الأسعد، والفنان محمود دعاس، والشاعر عبد العليم زيدان، وغيرهم، وكان للسياسي دور بارز في الحديث المركز حصرياًعلى تطورات المظاهرات في سراقب، وقلما يترك  مظاهرة لا يشارك فيها،كان جريئا شجاعا لحد التهور، وكريما بلا حدود.

وبشكل مفاجئ غادر وطنه وعشقه الأبدي سراقب ليرحل إلى الجزائر ، حيث يعمل أولاده، واستقر في مدينة غرداية،
وبعد وفاته اتصلت بقريبه وصديقي علي عدنان هلال، لأسأله عن حياة الراحل في الغربة ، فقال لي : كان حلمه أن يرى النصر ولو للحظة .

وبحكم معرفتي بالراحل، فصعوبة المعشر، وبعده عن وطنه الكبير، ووطنه الصغير سراقب، هو ما أضعفه، فمن الموت أن تضطر للتعايش في مجتمع لا يحمل التفاصيل الصغيرة في أحلامه وأمانيه بالنصر على الطغيان، وبسورية شامخة حرة كريمة، ومن أدق التعابير في غيابه ما قاله صديقه منهل: (لقد قتلته الغربة) .
كخهع