فنّانو التصفيق واللعق

تنزيل

زيتون – بشار فستق

يرمي التجريب في الفنّ إلى إيجاد أدوات تعبير جديدة لمعالجة ما ينتقيه ويكثّفه من الحياة، في سبيل طرح الأسئلة الأعمق فيما يمسّ جوهر قضايا الإنسان للوصول إلى تعميمات فلسفيّة. نجد ذلك تطبيقيّاً في (البروفات) التدريبات المسرحيّة الحقيقيّة، أو على الأقلّ نسعى فيها لذلك، ولكنّا نواجه دائماً العقبة الرئيسيّة المتمثّلة في العقليّة الإدرايّة الكارهة والطاردة للإبداع، فكيف إذا كانت ممزوجة بحبّ الحذاء العسكريّ!؟
في تجريب فنّي يتعلّق بإعادة قراءة مسرحيّة «هاملت» الشهيرة للشاعر العظيم «وليم شكسبير» من خلال رؤية معاصرة تتلخّص بوضع «هاملت» في مواجهة الفساد المستشري في القصر، ولا يستطيع الفعل لأنّ رأس السلطة هو رأس الجريمة، فقد قَتل العمُّ الملك (أبا هاملت) وتزوّج الملكة «غيرترود» (أمّ هاملت)، وينبع «التردّد الهاملتيّ» من انتظار هاملت اللحظة المناسبة، بعد فضح الفاسدين المجرمين ليكون قتلهم قضيّة مكافحة وعدالة وحقّ، وليس انتقاماً فرديّاً اعتياديّاً.
في دورة للتمثيل والإخراج لطلبة جامعة دمشق، لم تكن الفترة الزمنيّة المخصّصة(شهرواحد فقط) كافية للمضيّ في هذا العمل مع الأستاذ المخرج «مانويل جيجي» فقرّر نقل التجربة إلى طلبة المعهد العالي للفنون المسرحيّة، حيث – من المفترض – أن يكون طلّاب السنة الثالثة أحوج وأقدر على خوض هكذا أعمال أقرب إلى المختبر المسرحيّ، وقد زُوِّدوا على الأقلّ بمبادئ المسرح، وتلمّسوا بداية طريقهم في عالم الفنّ.
وفي التفاصيل، ومع بدء العمل وجد أنّ معظم طلّاب الصفّ ليس لهم علاقة بالمسرح، وضرب المخرج «جيجي» مثلاً على ذلك أنّ: «أحد الطلّاب يأتي يوميّاً لينام في المعهد فهو يلعب الورق (الشدّة) طوال الليل، وله قصّة مثيرة يعيدها بلا مناسبة، فقد قام بإطلاق النار على ضابط كبير في الجيش وسُرّح على إثرها من الخدمة كمتطوّع، ولم يعاقب بأكثر من ذلك، بل مُنح استثناءً لدخول المعهد العالي للفنون المسرحيّة باعتبار أنّ عمره قد تجاوز الثالثة والعشرين وهو الحدّ الأعلى للقبول كطالب في قسم التمثيل في هذا المعهد!».
ورغم أنّ جلّ المقبولين في المعهد هم من المدعومين، لكن لا يخفى على أحد أنّ هذا الطالب هو الأكثر قرابةً من عائلة الأسد، فهو من عائلة «إسماعيل»!
والآن كيف يمكن أن يقدَّم «هاملت» مع هكذا أجواء؟
طبعاً كانت النتيجة خيبة الأمل، وعدم إمكانيّة إنجاز العمل التجريبيّ، وطيّه في دفاتر المخرج الذي غادر بعد ذلك للعمل في الكويت كمدرّس في معهد المسرح هناك، كالكثيرين ممّن غادروا هذه البيئة الطاردة للإبداع، كلّ إلى مكان.
بقي أمثال ذلك الطالب الذي صار حاضراً في جميع المسلسلات السوريّة، وحاضراً غصباً في جميع الأعمال، بدءاً من الكاميرا الخفيّة، وجميع المسلسلات إلى حفلات تمجيد المسلسلات، حتّى صار نجماً بالتكريس، وكان يقوم في أوقات فراغه بأعمال (كوميسيون) فهو وكيل معمل سيراميك الإسكان العسكريّة بحلب، أي أنّه يتقاضى نسبة عن كلّ متر مربّع من السيراميك يباع من الإسكان في دمشق! وهو مُسيّر المعاملات التي لا تسير، فباستطاعته جعل أحد أفرع المصرف التجاريّ في دمشق أن يفتح صندوقه ويستلم أموالاً ويعطي شيكاً، بعد انتهاء الموعد الرسميّ لإغلاق الصندوق! ويمكن أن يحصل على ورقة (غير محكوم) لشخص محكوم، وذلك بمجرّد حضوره شخصيّاً بسيّارته التي تحمل لوحة برتقاليّة من الدكتور سابقاً، الذي صار اسمه (سيّدي الرئيس) بحسب تعبير بشّار إسماعيل. الذي يجعل أيّ شخص يقف ويستمع إليه مجبراً حين يصف لقاءه (بسيّدي الرئيس) بعد أن قبض على شبكة تجسّس أجنبيّة في اللحظة الأخيرة والحاسمة عند حدود الأردنّ، فيحكي ويحكي، ولا أحد يستطيع تكذيبه أو يتجرّأ على مقاطعته، فحكايته صدّقها (سيّده الرئيس) وهنّأه عليها شخصيّاً.
لا يذكر أيّ مصدر في العالم حادثة قبض على أيّ جاسوس في سورية من قبل أيّ جهاز أمن سوريّ أو غيره على الإطلاق.
هذه واحدة من القصص التي كانت تفتح لبشّار إسماعيل أبواب شركات الإنتاج التلفزيونيّ الخاصّ بالإضافة إلى أعمال القطاع (العامّ) المسخّر لأمثاله.
من حسن حظّ المسرح أنّه ما احتوى هكذا أشكال، وأمثاله ممّن لم يصعدوا يوماً خشبة المسرح إلّا لإلقاء المدائح، ولم يعرفوا من التجريب الفنّيّ شيئاً، وقد ظهروا في الآونة الأخيرة على صورتهم الحقيقيّة يمارسون لعق الأحذية العسكريّة، يطوبزون على صور القاتل، يصفّقون لقتل السوريّين بالطرق كافّة، بالقنابل الكيماويّة أو البراميل المتفجّرة أو تحت التعذيب أو تجويعاً، ويبتسمون للكاميرا.