إيبلا زهرة المدن المنسية

090068_2009_03_31_10_07_50

في الشمال الغربي من سوريا تنتشر أهم التجمعات الأثرية في العالم، ويطلق عليها اسم المدن المنسية, ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الأول والسابع للميلاد, وتتوزع هذه الأثار بين مدينتي حلب وإدلب, وحسب دراسات وأبحاث الآباء الفرنسيسكان يبلغ عددها حوالي “800” موقع وقرية أثرية. وتم إضافة هذه المواقع إلى قائمة التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو عام 2011, تتميز هذه القرى ببنائها وفق نمط معماري واحد تميز عن فن العمارة الكلاسيكية اليونانية والرومانية وسمي فن العمارة السورية.
ومن أهم هذه المدن المنسية قصر براد, برج حيدر, دارة عزة, تل معبد عين دارة, موقع النبي هور وكلها قريبة من قلعة سمعان. وفي محيط مدينة إدلب نجد قرية سرجة, قرية المغارة, جبل باريشا, خان شيخون. قرية الدانا, كنيسة قلب اللوز, عمود سرمدا, البارة, ومن المعالم الأثرية الهامة في ذات المنطقة تل مرديخ “مملكة ايبلا” الواقع قرب مدينة سراقب، ويُظهر مرحلة مهمة من تاريخ سوريا خلال الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد، وقد تم اكتشاف التل بشكل متأخر في نهاية ستينيات القرن العشرين وما زالت كنوزه مدفونة تحت الأرض، وبقيت عمليات التنقيب والبحث مستمرة إلى أن توقفت بسبب الحرب.
استغل لصوص الأثار حالة الفوضى التي تعيشها البلاد للقيام بأعمال التنقيب وبيع الآثار في السوق السوداء، رغم كل الجهود المبذولة من قبل أبناء المنطقة لحمايتها إلا أن هذه العمليات لم تتوقف، وتشير المعلومات أن تل مرديخ قد تعرض إلى أضرار كبيرة في السنوات الأخيرة من خلال عمليات الحفر والتنقيب غير الشرعي مما كان له أثر أكبر بكثير مما سببته عوامل الطبيعة، وتبين من خلال الكشف الميداني عن انهيار بعض الجدران التي كانت تقوم البعثة الإيطالية بترميمها نتيجة الأمطار وتوقف عمليات الصيانة والترميم خلال فترة الأحداث. وفي مقابلة صحفية لعالم الأثار الإيطالي “باولو ماتيه” الذي اكتشف ايبلا عام 1964 تمنى لو أنه لم يكتشف ايبلا على الإطلاق، وذلك بسبب ما يحدث فيها من عمليات تنقيب عشوائي أدى إلى تخريب ونهب الكثير من المقتنيات الأثرية.
خلال فترة الأحداث تعرض الموقع لعمليات التنقيب غير الشرعي التي قامت فيها عصابات الأثار في العديد من قطاعاته, كما حدث في منطقة الأكربول التي انتشرت فيها الحفر التي صنعتها أيدي اللصوص أمام الدرج البازلتي وقرب غرفة الأرشيف، إضافة إلى القصر الملكي وملحقاته, وأجزاء من المعبد ومن القصر, ويتحدث شهود عيان عن مشاهدة بقايا عظام بشرية وفخار مكسور, مما يعني قيام اللصوص بتخريب الأثار وضياع المعلومات التاريخية التي تدل عليها هذه البقايا. كما لوحظ وجود عدد من الحفر في المعبد, وأقسام من القصر, والقصر الشمالي, والمعبد, إضافة إلى حفر بعض الآبار التي اكتشفتها البعثة الأثرية الإيطالية في مراحل سابقة.
التخريب الأكثر خطورة ما قامت به احدى مجموعات المعارضة المسلحة في المنطقة الأثرية قرب البوابة الجنوبية الغربية والتي تدعى باب دمشق، فقد تم الكشف عن وجود الأنفاق والحفر الكبيرة والعميقة التي حُفرت بواسطة البلدوزر ليس بغرض السرقة وإنما من أجل تدريب العناصر على اللياقة البدنية، ويتراوح عمق إحدى هذه الحفر 2 متر وبطول 5 أمتار مخترقة طبقات أثرية كاملة، ولوحظ وجود خندق بعمق 1 متر تقريباً وطول نحو 10 أمتار، وحوّل المسلحون أحد الجدران الأثرية إلى لوحة رماية حيث اخترق الرصاص الفسيفساء وخرب معالمها.
عمل المجلس المحلي في المنطقة مع سكان تل مرديخ على حماية الأثار ومنع عمليات التنقيب، مما أدى إلى الحد من عمليات السرقة لكن لم تنهيها بشكل كامل ولم تمنع العبث وتخريب السويات الأثرية في الموقع, الذي يجري على مرأى ومسمع الجميع ويتم الإتجار بالمسروقات علناً من خلال التعاون مع تجار الآثار الأجانب والمحليين, ويذكر أحد أبناء المنطقة أن الجيش الحر عمل على منع السرقة وعمليات تهريب الآثار لكن لم يفلح بذلك, ويؤكد أن تجار الآثار الأجانب يطلبون من لصوص الآثار العمل والبحث على لُقى أثرية بمواصفات محددة، مما يدل على معرفة ودراية بما يوجد في المنطقة من آثار.
يتحدث أحد المنقبين عن تجربته قائلاً يستغل تجار الآثار عدم معرفتنا بقيمة ما نجده من تماثيل ولُقى أثرية, كما يستغلون سوء الأوضاع الاقتصادية والحاجة للمال فيحصلون على الآثار بأقل سعر، ويوفر التجار الأجهزة اللازمة للكشف عن القطع الأثرية والتي تحدد مكان وجودها بدقة مما يسهل الحفر واستخراج القطعة دون أن تتضرر. وتتوارد المعلومات بشكل متزايد عن تهريب قطع أثرية هامة ونادرة إلى خارج البلاد عبر لبنان واحياناً عبر تركيا.
باولو ماتيه العالم الإيطالي الذي اكتشف ايبلا عام 1964 وفي مقابلة صحفية له “تمنى لو لم يكتشف إيبلا لما حصل بها في الآونة الأخيرة”. وهذا يحدث في كل المناطق الأثرية في سوريا ومتاحفها التي تتعرض للنهب والسرقة على يد عصابات الآثار التي تتعامل مع كل الجهات التي تتصارع في سوريا لتصل إلى هدفها.
في ظل ما تمر به البلاد من دمار وفوضى طالت التاريخ الحضاري لسوريا بالتدمير والتخريب, ومنحت اللصوص ومهربي الآثار بالسطو على مقتنياتنا الأثرية وتهريبها إلى خارج البلاد، أمام هذه التحديات التي تطال الحضارة السورية تقع مسؤوليات جسيمة على أبناء البلد والجهات التي تدرك أهمية هذه الآثار للعمل على حمايتها ومنع تخريبها وتدميرها من خلال تشكيل لجان ومجموعات حماية من سكان المناطق الأثرية نفسها، والعمل مع الأطراف المسلحة المختلفة لتحييد المواقع الأثرية عن الأعمال العسكرية حفظاً لها من التدمير ورفع غطاء الحماية عن مجموعات اللصوص وتجار الآثار كي تتمكن المجالس المحلية ولجان الحماية من حماية المواقع الأثرية لحين استقرار الأوضاع في سوريا.

مهند النادر