خمس سنين والمظاهرات تعود لسيرتها الأولى

12729202_1676491439292773_2008398878295385482_n

زيتون – أحمد فرج

كان يوم جمعة عادي، لكن شيئاً من التوتر والقلق بدا على وجوه الشبان في البلدة التي تعتبر نفسها معنية بأي حراك سياسي، ولا يعرف السبب لمثل هذا الشعور المتنامي لدى الشبان الذين لم يعايشوا أية هزات سياسية في عمرهم سوى ما سمعوه من جيل أبائهم من اضطرابات سياسية سابقة.
الأحاديث التي كانت تحكى في الجلسات الخاصة عن إمكانية خروج مظاهرات في سوريا أسوة بغيرها من دول الربيع العربي هي السبب وراء الترقب والحذر الذي يشعر به الناس رغم بعد التوقعات عن أي حراك قريب، وإن حدث فلا بد أن يجري في العاصمة أو المدن الكبرى ومن المستبعد أن تشهد البلدات الصغيرة كهذه البلدة هكذا تمرد.
وكعادة الريف بدأ الناس بأخذ مواقف متناقضة وحادة من الحراك المتوقع من قبل أن يبدأ حتى. أبو محمد وهو رجل عاطل عن العمل قال في وسط السوق انه سيكون «أول القامعين بالحذاء لأي مظاهرة يراها».
أبو حسن موظف حكومي قال أنه مستعد لأن يشارك بالمظاهرات شرط أن تكون في دمشق وبأعداد غفيرة، آخرون رأوا أن الحراك مستحيل ولن يحدث نظراً لقبضة النظام الأمنية التي ستقمعها بشدة، لكن البعض ظل صامتاً باهتمام وترقب.
كل تلك الأحاديث كانت محاولة لجس نبض الناس لبعضهم، ولم يتعدى الأمر مجرد استطلاع للرأي فليس من داع لأخذ مواقف ضد بعضهم لأمر قد لا يحدث أبداً.
المظاهرة الأولى 25/3/2011:
في ظهيرة تلك الجمعة مر إبراهيم الشاب المحبوب والكادح ليخبر الجالسين (الذين اعتادوا شرب القهوة في دكاكينهم في وقت الصلاة تجنبا لأي إحراج) أن مظاهرة تجري الأن عند جامع الزاوية، قالها بدون اهتمام أو شعور بالخطر وكأنه يخبر عن حادث عابر.
لم يدم الصمت طويلا حتى أخذ كل من الحاضرين قراره، قلة من ذهبوا ليروا المظاهرة في حين أن أغلب الحضور إلتحق بالوجبة الدسمة المعتادة في مثل هذا اليوم لدى العائلات.
عشرون شخصا أو يزيدون كانوا يقطعون الشارع ذهاباً وإياباً، ارتباك واضح يبدوا على الجميع سواء المشاركين أو المتفرجين، المشاركون خليط من الأعمار والاهتمامات والشرائح، فلا رابط سياسي أو اجتماعي يجمع بينهم، وكأن صدفةً وحدها جمعت بينهم.
سيارات الأمن لم تتأخر لكنها لم تتدخل، في حين وقف المخبرون يتفحصون وجوه الناس، فوضى عارمة تجتاح المكان، لم يعد يعرف من هو المشارك ومن هو المتفرج، حالة من عدم التصديق والفرح والارتجال تعم الناس، لم تطل تلك المظاهرة أكثر من ساعة، لينتهي ذلك اليوم بالصلاة على الشهداء الغائبين في درعا وليمضي كل مشارك الى مراجعة مسؤولياته.
قال لي صاحبي وهو يتذكر بعد خمس سنين ذلك اليوم: «لم يكن مخططا لها للأمانة، ما جرى أن أحد الشباب طلب من الإمام في صلاة الجمعة الدعاء لشهداء درعا، ليقوم مخبر للنظام بضربه بالحذاء، ما أشعل المسجد، وأصر عشرة من الشبان على قراءتها خارجاً ومن ثم لينطلق هتاف شاب قلة من كانوا يعرفونه لصغر سنه ودماثة أخلاقه، بالروح بالدم نفديك يا درعا، بالروح بالدم نفديك يا شهيد، الله سوريا حرية وبس».
ذلك الشاب هو «حاف» الذي سيكون له دور كبير في أعطاء روح النبل والفروسية للمظاهرات وللسلاح فيما بعد.
تناقل الناس أن قسماً كبيراً ممن أدوا الصلاة لم يكونوا على وضوء، كما اتهم بعض المتفرجين هؤلاء المصلين بمجموعة من الأولاد والجهلة بما ينتظرهم، وعبر الكثيرون عن عدم استعدادهم للتظاهر مع هكذا أشخاص، في إشارة لتفوقهم الاجتماعي والطبقي».
«حمل ثقيل انزاح عن صدري، شعرت بأن تلك الصرخات التي أطلقتها كان يجب أن اصرخ بها منذ زمن، فرح هائل وسعادة لم أحس بها من قبل، كل عمري وأنا أخاف من المخابرات لكن في تلك اللحظة لم أشعر بأي خوف» هذا ما قاله معن أحد المشاركين.
المظاهرة الثانية 8/4/2011
كتبت اللافتات بليل، وخبأت تحت الثياب ومع خروج الناس من باب المسجد، بدأ انتظار الجميع للصرخة الأولى، يتباطأ الناس بالمغادرة، بعيون حذرة يبحثون عن البداية يجرون أحاديث يقنعون أنفسهم بأنها حجة للبقاء، فالبقاء بحد ذاته مشاركة تحسب عليهم، ثوان من الانتظار ثم ينبري شبان صغار بصرخات الولادة.hqdefault
جمع غفير ودموع فرح وشعور بالخلاص القريب تسير المظاهرة كسيل جارف لا يمكن لشيء أن يوقفه أو يمنعه، الرعب والمتعة، الخوف واللذة، الولادة والألم.
مازالت المظاهرة تنادي بالحرية وبالإصلاح بلا إسقاط للنظام، الخط الأحمر الذي تمسك به الأمن لم يدم طويلاً، حلقات النقاش ازدادت حدةً وعدداً، التجمعات صارت تأخذ صفات سياسية، كل المتظاهرين أخوة، ولم يعد للأخوة أي معنى إن كان أحدهم موالٍ، «الأخوة الأعداء» ظاهرة انتشرت بسرعة في المجتمع الذي تعرض لشروخ عميقة أصابت العائلات، حتى الزواج كمؤسسة بدت هشةً أمام هذا الطوفان القادم.
قلة هم المؤمنين بروح الثورة وهم الذين كانوا الضمان لعدم انحرافها بشكل مبكر، وهم من ناضلوا لكي تبقى ثورة نظيفة وللجميع، لكن لم يمتلكوا القدرة على تحصين ثورتهم لا من حيث التنظيم والإدارة ولا من حيث الرؤية في حماية أهدافها.
روح التفاؤل التي سرت في سوريا شجعت الناس على حضور المظاهرة الثانية التي تأجلت أسبوعاً، وقد أعطت هذه الفترة الفرصة لمن تأسف على عدم حضوره المظاهرة الأولى أو لمن أراد أن يأخذ وقته في التفكير قرار المشاركة.
ازدياد عدد المتظاهرين يعطي إحساساً بالأمان والقوة للمشاركين، كما يؤكد صوابية موقفهم، وان الخوف الذي منع الناس من التظاهر سابقاً انكسر الأن، وصار استطلاع حجم الحضور والسؤال عن الغائبين والترحيب بكل جديد، من روتين كل مظاهرة، ما خلق رابطة سرية نشأت المتظاهرين، أخوّة وثقة، ورفقة تمرد.
في فرع الأمن العسكري
مذكرات الحضور التي وصلت للمشاركين بسرعة من أفرع الأمن لم تقلل من الإحساس بأن أمراً هائلاً وحدث جلل يفوق حجم الأمن والمخابرات قد حدث، ولم يعرف أحداً ما سيؤول إليه مصير المتمردين المغامرين.
«لقد وعد السيد الرئيس وهو صادق حين يعد بأنه سيجري إصلاحات قريبة، لكن لن تصبح سوريا مثل ليبيا أو تونس إياكم أن تتظاهروا مرة أخرى»، قالها العميد نوفل رئيس فرع الأمن العسكري في محافظة ادلب بعد أن ضرب بيده على الطاولة بقوة، كان ذلك في مكتبه في فرع الأمن حين اجتمع مع كل من تظاهر في البلدة، وصافحهم واحداً واحداً بوجه مبتسم وبشوش حتى كاد أن يطلب لهم الشاي إلا أن العدد الكبير أعجزه عن تقديم الضيافة.
موظفون لا موالون
قدرة النظام على ربط رزق الناس ووظائفهم بولائهم له، كانت إحدى أكبر العقد المحيرة في عقول الناس التي بدأت تصنف وتؤطر من حولها، الموظفون بما يملكون من وعي إداري ووظيفي كانوا يدركون فساد النظام، لكنهم كانوا عاجزين عن الالتحاق بالتظاهر والمغامرة بقوت أبنائهم، ظلت حالات التمرد قليلة من الموظفين في حين تحمل معظمهم سخط الجمهور الثائر والذي كان يراوح مابين تخوينهم وتقدير موقفهم أحياناً.
يواجه مصعب وهو مهندس لم يتخل عن وظيفته رفاقه الذين استنكروا عليه حد الغضب والقطيعة خروجه بإحدى المسيرات المؤيدة في المحافظة: «ماذا سأفعل.. لقد ساقونا من الدائرة غصباً لنقف في إحدى الساحات مرغمين ب»مسيرة عفوية»، ولو كان لي عمل أخر لما التحقت بوظفيتي لكن لدي أطفال وعائلة وعلي أن أطعمهم»
تشييع الشهيد «غسان العبدو» أول جندي شهيد رفض إطلاق النار على المتظاهرين 26/4/2011
من أبرز الأحداث التي ساهمت بحسم خيار الأهالي استشهاد الشاب غسان العبدو، الذي رفض إطلاق النار على المتظاهرين في درعا، القصص التي كانت تحكي عن إعدام كل جندي يرفض إطلاق النار على المتظاهرين لم تترك مجالاً لمشكك في سبب استشهاد غسان، ثار أهالي البلدة غضباً، وانضم الكثيرون للحشد الذي انتظر الجثمان عند بيته، ليفاجأوا بمنظر فاقع من التناقض، ضباط الجيش ومراسم عسكرية كانوا يتقدمون الموكب مع باقات الورود، مشهد يختصر كل الكذب والخداع التي برع بها النظام وحفظها الناس، ترافقهم كميرا التلفزيون السوري، طردهم المتظاهرون بسرعة وهتفوا بألم «كاذب كاذب كاذب الإعلام السوري كاذب».
أنور خطاب أحد الموالين قبل الحادثة والذي استشهد بعد شهور قليلة وهو يجابه جيش النظام أثناء اقتحامه للبلدة قال: «نعم كنت موالياً لكن بعد هذه الحادثة لن أوالي أحدا إلا المظاهرة، لم أكن أتوقع أن يأمر أبنائنا بقتلنا ويقتلهم إن لم يرضخوا»
زوار الليل يقتحمون البلدة في ساعة متأخرة من الليل
بعد منتصف ليلة 30/4/2011
في الساعة الثانية ليلاً داهمت مجموعة من سيارات الأمن البلدة، قادمة من ادلب واعتقلت أكثر من 30 شخصاً، بالأدب المعروف عنهم اقتحموا بيوت المطلوبين وأرهبوا النساء والأطفال وتسلقوا الأسطح وكسروا الأبواب، في مشهد يؤكد أن لا أمل بحل سلمي مع هذا النظام الأمني.
انتشرت سيارات الأمن في كل أحياء البلدة كذئاب جائعة، حمى من الاتصالات بين المتظاهرين بأخر الليل تحذر من المداهمات وهروب قسم كبير الى خارج البلدة وسط خوف الأهالي ورعبهم الذين سمعوا أصوات أبنائهم وصراخهم جراء الضرب، في جو من الرعب الذي أعاد للأذهان أحداث حماه وجسر الشغور لينقلوا المعتقلين بعدها الى أفرع الأمن بادلب.
خرج معظم المعتقلين بعد اسبوع لتبقى تلك الحادثة عالقة بالأذهان وبان لاشيء تغير بأساليب النظام وكان على المتظاهرين أن يأخذوا حذرهم واحتياطاتهم من تلك الاقتحامات، وبدأوا بالنوم في أماكن مخفية لتبدأ مرحلة جديدة في حياة المتظاهرين الذين حرموا من النوم في بيوتهم وليستبدلوها بإمكان تتغير كل فترة.
الجيش السوري يقتحم البلدة لأول مرة بحثا عن مسلحين 11/8/2011
رتل طويل من الدبابات والجنود وسيارات الشبيحة والأمن يقفون في ساعة مبكرة على مشارف البلدة يتهيئون لاقتحامها، يرافقهم عناصر أمن وشبيحة، في جولة كانوا قد قاموا بها على عدة بلدات أخرى، لم يكن الخوف كبيراً، إذ كانت بقايا من ثقة ما تزال لدى الأهالي بأن الجيش لا يمكن أن يؤذي النساء والذين لم يشاركوا بالحراك، هرب المتظاهرون جميعهم من البلدة منكسرين من تركهم لعائلاتهم للمجهول، لم تحدث أية مقاومة فلم يكن هنالك أي سلاح، فتح الجيش نيران أسلحته الثقيلة في الشوارع، واقتحموا البيوت بحثا عن المسلحين الأشباح، وانسحبوا بعد أن اعتقلوا مئات الأشخاص الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم وثقوا بهذا الجيش وبقوا في بيوتهم، دام اعتقال أغلبهم لثلاثة شهور، تعرضوا خلالها لمختلف أنواع التعذيب.
صبوا ماءً مغلياً على رأسه وقتلوه تحت التعذيب.. أحمد صالح قدور وثورة بلدة
4/9/2011
اعتقلوه على حاجز القبان، انزلوه من السيارة ونقلوه الى حاجز معمل الزيت ليسوموه أنواع العذاب، قيل أن الضابط كان يسكب عليه ماء المتة المغلي أثناء شربها، ورموه في المشفى الوطني، واضطر أهله للتوقيع على وثيقة تفيد بأن سبب الوفاة هو العصابات المسلحة لكي يحصلوا على جثته كما حدث مع أهل الشهيد غسان العبدو.
لم تشهد البلدة حشدا مثل ما حدث في ذلك اليوم، نهر من البشر الناقمين انتشر من وسط البلدة حتى ضواحيها، غضب شعبي عارم، واروه في مقبرة بجانب بيته وطريق حلب دمشق، الذي شهد على مدار السنوات القادمة كل تطورات الثورة من عجرها وبجرها، من نبلها وسقطاتها، وليظل قبر أحمد يشحذ في نفوس الشباب روح المقاومة التي انطلقت ببواريد صيد بسيطة لتجابه هذا الإجرام الطاغي.
وتدور الأيام لتظهر في نهاية 2011 جماعة حسم الأمر الغامضة والمبهمة التي امتازت بسرية حركاتها وبامتلاكها لسلاح حديث، ثم ليقتحم الجيش سراقب للمرة الثانية ويقع عدد كبير من الشهداء وهم يدافعون عن بلدهم في 24/3/2012، لتدخل البلدة مجبرة على المشهد العسكري والدموي الذي لم ينته بتحرير معمل الزيت والحواجز المحيطة بها في 29/11/2012.
لا يمكن لنص أن يختصر تجربة بلد في الثورة، ففي كل تفصيل صغير ألاف الحكايات والآلام وفي كل صرخة حيوات تتبدل، لا يمكن لنص أن يقول ما فكر به المتظاهرون والمعتقلون والشهداء والمشردون، لا يمكن للحروف أن توصل خوف الأمهات وانتظار الزوجات وشوق اللاجئين.. لا تطلبوا الإنصاف من الكلمات في مواجهة الثورة، هي عاجزة أمام بلد وشعب ثار لكرامته وحريته فلم يجد سوى الموت جواب.
وكما بدأت الحكاية، عادت المظاهرات بعد خمس سنوات الى سيرتها الأولى.. ضعيفة ومرتبكة وخائفة، لكنها في المقابل تركت الأسد شبحاً لا يملك قراراً على حراسه، وحولته الى موظف ينفذ قرارات الإيرانيين والروس الذين سمعت قرار انسحابهم الأن من سوريا.