«دفاتر العشاق» سراقب على حيطانها فن غرافيتي يفتح نافذة جديدة على الحالة السياسية السورية

الجدران هي دفاتر المجانين، لكن اختيار اسم «دفاتر العشاق» جاء للتعبير عن الطموحات السورية في «حياة حرة، و أصبحت الجدران دفاتر للعشاق من النشطاء السياسيين»234524524524
ندن: عبد اللطيف جابر
«التعامل الإبداعي مع الواقع»، هو التعريف الذي أعطاه الناقد الفني الاسكوتلندي جون غريسون، لما أصبح يطلق عليه بالفيلم الوثائقي، في مراجعته لفيلم «مونا» الذي صور حياة أهالي جزر سموا في جنوبي المحيط الهادئ عام 1926.
فيلم «دفاتر العشاق» الوثائقي (حيطان سراقب)، هو نتاج تعاون فني بين المخرجة السورية عليا خاشوق، التي أشرفت على مراحله بعد انتهاء عملية التصوير، وبين زميلها إياد الجرود، الذي تتبع بكاميرته على مدى 3 سنوات جدران مدينته سراقب بريف إدلب بسوريا. عملهما يعكس هذا الجانب الإبداعي من الأفلام التسجيلية، حسب تعريف الناقد الاسكوتلندي.
لقد سخرا، عليا وإياد، التقنية التصويرية والتوثيقية المتاحة التي توفرها التكنولوجيا الحديثة والخبرات الفنية المتراكمة في هذا الشكل الفني للفيلم الوثائقي، التي تخطت مع الزمن المحاولات الأولى في التسجيل السينمائي القصير، التي أنتج كثيرا منها الأخوان لوميير في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تسمى بالاكتوالتي (أفلام الحقيقة).
تدور كاميرا إياد بحرفية عالية في شوارع المدينة ليلا ونهارا، لتبين الدمار الذي لحق بالمدينة من خلال لقطات بانورامية على امتداد أحد الشوارع الخارجية للمدينة. وتصور لحظات من الحياة الاجتماعية في المقاهي وفي أماكن لقاء الشباب في جلسات خاصة في نقاشات تسيطر عليها أحداث الثورة السورية.
لكن هم إياد في هذا العمل هو توثيق ما يدور على الساحة السياسية من تغييرات من خلال ما كتبه نشطاء القوى السياسية المختلفة التي وجدت في هذه المدينة وحاولت إحكام سيطرتها عليها، وجاءت الكتابات الجدارية لتعكس هذه التحولات.
ويعتقد إياد أن المدن السورية الأخرى لها نصيبها هي الأخرى من هذه الكتابات الجدارية إلا أن سراقب تميزت في هذا الفن التعبيري الاحتجاجي أكثر من غيرها.
3 سنوات من التصوير كانت كافية لنشاهد من خلال الجدران وجود نشطاء النظام السوري والقوى الأخرى. لكن جاءت الكتابات بعد اندلاع الثورة السلمية لتعكس هي الأخرى التوجهات السياسية الجديدة. شعارات تلغي شعارات أخرى. «غدا ستشرق الشمس، وأنا أحب الصباح»، ألغت ما كان يكتبه نشطاء النظام. وبعد أن قام رائد رزوق، الشخصية الرئيسية في الفيلم، بخط الشعارات السلمية على أحد الجدران ليلا، قال: «أديت واجبي، وكأني فجرت 30 دبابة». وهذا ما عكس الطابع إلا عنفي للثورة السورية في بداياتها.
تقول عليا عن اختيارها للتسمية إن المعروف أن الجدران هي دفاتر المجانين، لكنها اختارت مع إياد «دفاتر العشاق» للتعبير عن الطموحات السورية في «حياة حرة كريمة، ولهذا فإن الجدران هي دفاتر هؤلاء العشاق من النشطاء السياسيين».
وتقول عليا: «يسلط الفيلم الضوء على الطابع السلمي للثورة السورية من خلال هذا الفن في المدينة التي اعتاد أهلها الرسم على الجدران والتعبير بهذا الفن عن تطلعاتهم للتغيير في الديمقراطية والحرية، غير أن تطرف (داعش) واستهداف النظام للبلدة المسالمة عرقل استمرارية الجداريات وخفف من وتيرتها».
إياد وعلياء، قدما لنا في 54 دقيقة و32 ثانية (ولهذا يعتبر من الأفلام الوثائقية المتوسطة الطول) مادة فنية وسياسية دسمة، وتمكنا من اختزال 3 سنوات (2011 – 2014) من عمر الثورة السورية، السلمية، البدايات، ومسيرتها بأمانة وجرأة سياسية، ليقدما لنا وثيقة، وموقفا نقديا، اجتماعيا وسياسيا، من تطور الأحداث، التي ربما كانت مخالفة لقناعاتهما وميولهما السياسية. لكن اهتمامهما بالجانب الفني والتقرب من الموضوعية وحرفيتهما تغلبت في نهاية المطاف على الخطاب المنحاز، سياسيا وآيديولوجيا، وقدمت للمشاهد بتوازن رقيق ما يدور على الأرض.
ولهذا لاحقت كاميرا إياد بأمانة وصورت شعارات القوى الإسلامية المتطرفة و«داعش» الطائفية في فترة وجودها في المدينة، مثل: «العودة إلى الإسلام طريقنا الوحيد لإسقاط النظام» و«خلافة إسلامية هي.. هي.. هي»، و«الجيش العلوي جئنا لاجتثاثكم.. لا يوجد اتفاق»، قبل أن تعود قوى الائتلاف الوطني لتسيطر ثانية على المشهد السياسي في المدينة، وترفع شعاراتها مرة أخرى، مثل: «سراقب مدنية.. هي.. هي.. هي»، في ردها على شعارات «داعش» التي كانت منتشرة على البنايات في المدينة.
وتقول عليا عن هذه الأمانة الحرفية والحذر من الانحياز السياسي، إنه «على الرغم من كون القضية السياسية السورية ما زالت في عين العاصفة وتتصدر الأحداث يوميا في الشرق الأوسط، فإن هذا لا يجب أن يطغى على الجوانب الفنية التي تقف كشهادة سينمائية بحد ذاتها».
هذا العمل يعكس الأمانة المهنية التي أثبتتها الأحداث الأخيرة على الأرض بعد تغلغل «داعش» في سوريا والعراق، الذي نرى الآن مضاعفاته الدموية على الأرض. إذ عبر عن ذلك رائد رزوق، الذي كانت بدايات الفيلم معه وكان يقرأ أشعارا لمحمود درويش، وكان يكتب الشعارات على الجدران. لكنه ومع التغييرات السياسية بدأ يعبر بحزن عن التغيرات السياسية، والتوجهات الطائفية التي دخلت إلى النسيج الاجتماعي للمدينة.
«أهداف الثورة انعكست»، قال رائد، ابن مدينة سراقب، مضيفا: «النصر يصنع هنا وليس في تركيا»، في نقد مبطن للقوى السياسية للمعارضة السورية.
لكن من الضروري ونحن نشاهد ما كتب على جدران سراقب ألا نرى فقط الجانب الشعاراتي في الكتابات، الذي مارسه كثير من أبناء المدينة بعفوية، وأحيانا بتعمد في إيصال الرسالة السياسية، من خلال هذا الفن الغرافيتي، الذي لم يعد أداة تعبيرية احتجاجية، وإنما فن تتداوله كبرى صالات مزادات في العالم الغربي، خصوصا أعمال أحد روادها، البريطاني بانكسي، الذي بقي مجهول الهوية لسنوات، وأصبح لسان حال الحركات الاحتجاجية السياسية الاجتماعية في بريطانيا والعالم، وعبر في هذا الفن عن رفضه للرأسمالية والنظام السياسي واحتضن قضية التضامن الأممي، وتمكن من الوصول إلى المدن الأميركية وجنوب أميركا وإلى جدار الفصل العنصري في فلسطين ورسم كثيرا من الأعمال عليه، منها عمل يصور طفلة فلسطينية تشد إلى يدها مجموعة من البالونات الكافية لترفعها عاليا من أجل التغلب على الجدار الفاصل وتصل إلى الجانب الآخر منه.
وقبل أيام شاهد الفيلم النور من خلال عرضه العالمي الأول في المهرجان الدولي للفيلم في روتردام – هولندا، وكان الفيلم السوري الوحيد الذي شارك في دورة هذا العام بين 21 يناير (كانون الثاني) و1 فبراير (شباط)، ضمن قائمة الأفلام الوثائقية متوسطة الطول. وقد تمت برمجة الفيلم للعرض أمام الجمهور للمرة الأولى في 3 عروض بصالات روتردام، سبقها عرض خاص للصحافيين وشركات التوزيع والمنتجين. كما عرض الفيلم قبل أيام في جنيف في مقر الأمم المتحدة وفي لوزان ويوم الخميس الماضي في نادي الفيلم السوري في باريس، ليتوجه بعد ذلك للاشتراك في مهرجان مونتريال للفيلم الكندي.
فيلم «دفاتر العشاق» هو أول عمل وثائقي طويل لإياد الجرود، المصور والناشط الإعلامي الذي حقق عددا من الأفلام القصيرة الوثائقية قبل هذه التجربة. صور الفيلم بعدسته طوال 3 سنوات، منذ بداية 2011، حتى بداية 2014، ووثق اللحظة، والتقط كل ما كتب على جدران بلدته الصغيرة.
الكتابات وطريقة طرحها تتطور بخط موازٍ لتطور أحداث الثورة وحراكها. ويضيفا، عليا وإياد، اللذان التقتهما «الشرق الأوسط» على هامش مهرجان روتردام، «وكما كانت الجدران تحاكي الواقع وتطوره بألمه وأمله وتحاول توثيقه حينا ورسم مستقبل وحلم في حين آخر، كانت الصورة أيضا تواكب وتوثق تطور الجدران، محاولة المزج بينها وبين من كانوا يقفون أمامها، ليكتبوا لأناس عن أناس آخرين يعيشون بين هذه الجدران، الجدران التي كانت متراسا لهم أمام الموت في بعض الأوقات وكانت موتهم في أوقات أخرى».
تقول عليا، التي أخرجت عددا من الأفلام الوثائقية والروائية الطويلة ونال فيلمها «أوتيل كندا» جائزة مهرجان العالم في مونتريال بكندا عام 2012، «إن الناس في الفيلم هم الأبطال، بمعنى البطولة الجمعية التي أعادت الثورة تعريفها وصياغتها في وجه البطولة الفردية التي اضمحلت أمام طوفان الناس وهديرهم»، وإن «الحيطان هي مرايا الناس ومرايا الشارع الذي يفيض بالحكايا والمرارة اليومية، فالحيطان هي شخصية مقابلة ومحاورة أو هكذا يفترضها الفيلم، تأخذ روحها وأنفاسها من الناس فتحيا فيهم وبهم». اختيار فيلم «دفاتر العشاق» ليكون مشاركا في المهرجان الدولي في روتردام في عرضه العالمي الأول، قالت عليا: «إنجاز نستحقه بجدارة، لأننا نعتقد أنه يحترم خطابنا وجهدنا الذي نفترضه خطابا مختلفا وجريئا».
عند مشاهدة الفيلم تسمع أزيز الرصاص والمدافع وسحب الدخان ورصاص القناصة، وأضافت علياء أن هذا الفيلم «أنتج تحت ظروف أمنية وسياسة وفنية قاسية، وعلى الرغم من ذلك فإنه حافظ على توازناته في جميع هذه القضايا، ولم يساوم على معظمها، فقد حاول تقديم خطاب سياسي يعكس التغيرات التي حدثت على الأرض منذ انطلاق الثورة السلمية، وهذا لم يكن على حساب التقنية السينمائية التي ظلت نصب أعيننا بعيدا عن فن الشعارات».
لكن تعترف عليا أن العنصر النسائي غائب في الفيلم، باستثناء، الابنة الصغيرة مها الرائد، إذ يصطحبها معه في مهمته الجدارية. وفي نهاية الفيلم تقريبا تظهر امرأة تتكلم بألم عن اختفاء زوجها وابنها في سجون النظام. لكن المرأة غير موجودة في هذا الفن الاحتجاجي.
هل هذا تقصير من إياد وعليا؟ أم أنه يعكس واقعنا، الذي يعاني من هذا الفصل الاجتماعي بين الجنسين. كان من الصعب على إياد إيجاد فتاة ممارسة لفن الغرافيتي لتصويرها.
الفيلم يرفع صوتا آخر حرا متحررا أمام الخطاب السائد المسيطر وهو الخطاب الذي يكرس صورة السوريين وصورة الثورة بأسوأ أشكالها ويقف في نفس الوقت بوجه أمام صوت الإرهاب بمنتج إبداعي يقدم صورة مغايرة أخرى. وينتصر للناس أولا وأخيرا، تقول عليا: «من هنا تأتي أهمية ترشيح فيلمنا للمشاركة بأحد أهم وأكبر المهرجانات العالمية، وهو الذي نراه تكريما للتجارب السينمائية السورية، وأيضا تكريما للثورة السورية ولكل الأبطال الذين وقفوا يدافعون عن خطابها وسلميتها وأحقيتها». في نهاية الفيلم نشاهد شابا يحاول إرجاع بلاطات سقطت من جدار كان يحمل بعض الكتابات السلمية الاحتجاجية لإكمال الجملة المكتوبة. لكن رسومات بانكسي يتسابق عليها الناس لاقتطاعها من على الجدران وبيعها بمئات الآلاف من الدولارات في صالات المزادات الغربية.
هل يأتي اليوم الذي تنال فيه كتابات سراقب قيمة مادية، بعد أن تتطور وتأخذ شكلا فنيا واضحا، مثل التي تحظى بها رسومات بانكسي ويبدأ أهالي المدينة سرقتها وبيعها، بدلا من استخدامها كأداة تعبيرية احتجاجية؟ بالمناسبة بعضها كتب بالإنجليزية مثل الجملة الشهيرة لمارتن لوثر كينغ، زعيم حركة الاحتجاجات المدنية في الولايات المتحدة في الستينات، التي قال فيها «لدي حلم».